الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

                                                                                                                                                                                                                                      نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ، وقد كرر في القرآن نهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه ، كقوله تعالى : فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقولـه : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم الآية [ 33 \ 48 ] ، [ ص: 265 ] وقولـه تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 8 - 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله ، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا ، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم ; وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه في هذه الآية الكريمة : من أغفلنا قلبه [ 18 \ 28 ] ، يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية ، إنما هو بمشيئة الله تعالى ، إذ لا يقع شيء البتة كائنا ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية ، جل وعلا ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله الآية [ 76 \ 30 ] ، ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 46 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر ، لا يقع إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض . فما يزعمه المعتزلة ، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائما تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله ، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفا ، وأمثالها في القرآن كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى اتباعه هواه : أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر ، كالكفر والمعاصي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقولـه : وكان أمره فرطا ، قيل : هو من التفريط الذي هو التقصير ، وتقديم العجز بترك الإيمان ، وعلى هذا فمعنى وكان أمره فرطا ، أي : كانت أعماله سفها وضياعا وتفريطا ، وقيل : من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد ، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين : نحن أشراف مضر وساداتها ! إن اتبعناك اتبعك جميع الناس ، وهذا من التكبر والإفراط في القول ، وقيل " فرطا " أي : قدما في الشر . من قولهم : فرط منه أمر ، أي : سبق . وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن معنى قوله " فرطا " : أي : متقدما للحق والصواب ، نابذا له وراء [ ص: 266 ] ظهره . من قولهم : فرس فرط ، أي : متقدم للخيل ، ومنه قول لبيد في معلقته :


                                                                                                                                                                                                                                      ولقد حميت الخيل تحمل شكتي فرط وشاحي إذ غدوت لجامها

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها ، كقول قتادة ومجاهد " فرطا " أي : ضياعا . وكقول مقاتل بن حيان " فرطا " أي : سرفا ، كقول الفراء " فرطا " أي : متروكا . وكقول الأخفش " فرطا " أي : مجاوزا للحد ، إلى غير ذلك من الأقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية