الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 377 ] عبد الملك بن مروان والد الخلفاء الأمويين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، أبو الوليد الأموي أمير المؤمنين ، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سمع عثمان بن عفان ، وشهد الدار مع أبيه ، وله عشر سنين ، وهو أول من سار بالناس في بلاد الروم سنة ثنتين وأربعين ، وكان أميرا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة ، ولاه إياها معاوية ، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الحديث عن أبيه ، وجابر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، ومعاوية ، وأم سلمة ، وبريرة مولاة عائشة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى عنه جماعة منهم : خالد بن معدان ، وعروة ، والزهري ، وعمرو بن الحارث ، ورجاء بن حيوة ، وجرير بن عثمان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر عن محمد بن سيرين أن أباه كان قد سماه القاسم ، فكان يكنى بأبي القاسم ، فلما بلغه النهي عن التكني بأبي القاسم ، غير اسمه ; فسماه عبد الملك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 378 ] قال ابن أبي خيثمة ، عن مصعب بن الزبير وكان أول من سمي في الإسلام بعبد الملك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن أبي خيثمة : وأول من سمي في الإسلام بأحمد ، والد الخليل بن أحمد العروضي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبويع له بالخلافة في سنة خمس وستين في حياة أبيه ، في خلافة ابن الزبير ، وبقي على الشام ومصر مدة سبع سنين ، وابن الزبير على باقي البلاد ثم ، استقل بالخلافة على سائر البلاد والأقاليم ، بعد مقتل ابن الزبير ، وذلك في سنة ثلاث وسبعين إلى هذه السنة ، كما ذكرنا ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ست وعشرين ، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء ، الملازمين للمسجد ، التالين للقرآن ، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت أسنانه مشبكة بالذهب ، وكان أفوه مفتوح الفم ، فربما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب ; ولهذا كان يقال له : أبو الذبان ، وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن ، مقرون الحاجبين ، أشهل كبير العينين ، دقيق الأنف ، مشرق الوجه ، أبيض الرأس واللحية ، حسن الوجه ، لم يخضب ، [ ص: 379 ] ويقال : إنه خضب بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال نافع : لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا ، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأعمش عن أبي الزناد : كان فقهاء المدينة أربعة : سعيد بن المسيب ، وعروة ، وقبيصة بن ذؤيب ، وعبد الملك بن مروان ; قبل أن يدخل في الإمارة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عمر أنه قال : ولد الناس أبناء ، وولد مروان أبا - يعني عبد الملك - ورآه يوما وقد ذكر اختلاف الناس ، فقال : لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه . وقال عبد الملك : كنت أجالس بريرة قبل أن ألي هذا الأمر ، فكانت تقول : يا عبد الملك إن فيك خصالا ، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة ، فاحذر الدماء ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 380 ] وقد أثنى عليه قبل الولاية معاوية وعمرو بن العاص في قصة طويلة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن داود الزنبري ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد قال : كان أول من صلى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه ، فقال سعيد بن المسيب : ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم ، إنما العبادة التفكر في أمر الله ، والورع عن محارم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشعبي : ما جالست أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان ; فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ، ولا شعرا إلا زادني فيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر خليفة بن خياط ، أن معاوية كتب إلى مروان ، وهو نائبه على المدينة سنة خمسين : أن ابعث ابنك عبد الملك على بعث المدينة إلى بلاد المغرب مع معاوية بن خديج . فذكر من كفايته وغنائه ومجاهدته في تلك البلاد شيئا كثيرا ، ولم يزل عبد الملك مقيما بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة ، واستولى ابن [ ص: 381 ] الزبير على بلاد الحجاز ، وأجلى بني أمية من هنالك ، فقدم مع أبيه الشام ، ثم لما صارت الإمارة مع أبيه وبايعه أهل الشام كما تقدم ، أقام في الإمارة تسعة أشهر ، ثم عهد إليه بالإمارة من بعده ، فاستقل عبد الملك بالخلافة في مستهل رمضان أو ربيع الأول من سنة خمس وستين ، واجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين في جمادى الأولى إلى هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف ، فأطبقه ، وقال : هذا فراق بيني وبينك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو الطفيل : صنع لعبد الملك مجلس توسع فيه ، وقد كان بني له فيه قبة قبل ذلك فدخله ، وقال : لقد كان ابن حنتمة الأحوزي - يعني عمر بن الخطاب - يرى أن هذا عليه حرام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنه لما وضع المصحف من حجره قال : هذا آخر العهد منك . وكان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء ، وكان عماله على مذهبه ; منهم الحجاج والمهلب ، وغيرهم ، وكان حازما فهما فطنا ، سائسا لأمور الدنيا ، [ ص: 382 ] لا يكل أمر دنياه إلى غيره ، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص ، وأبوها معاوية هو الذي جدع أنف حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن عبد العزيز : لما خرج عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير ، خرج معه يزيد بن الأسود الجرشي ، فلما التقوا قال : اللهم احجز بين هذين الجبلين ، وول الأمر أحبهما إليك . فظفر عبد الملك ، وقد ذكرنا كيفية قتله مصعبا ، ودخوله الكوفة ، ووضعه رأس مصعب بين يديه ، وقد كان من أعز الناس عليه ، وأحبهم إليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن عبد العزيز : لما بويع لعبد الملك بالخلافة ، كتب إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإنك راع ، وكل راع مسئول عن رعيته الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ؟ لا أحد ، والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبعث به مع سالم ، فوجدوا عليه ; إذ قدم اسمه على اسم أمير المؤمنين ، ثم نظروا في كتبه إلى معاوية فوجدوها كذلك ، فاحتملوا ذلك منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 383 ] وقال الواقدي : حدثني ابن أبي سبرة ، عن أبي موسى الحناط ، عن ابن كعب قال : سمعت عبد الملك بن مروان يقول : يا أهل المدينة ، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم ، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق ولا نعرفها ، ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن ، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم ، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه الله ، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله ، فأحكما ما أحكما وأسقطا ما شذ عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جريج عن أبيه : حج علينا عبد الملك سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين ، فخطبنا فقال : أما بعد ، فإنه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون من المال ، ويؤكلون ، وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف ، ولست بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن معاوية - أيها الناس ، إنا نحتمل منكم كل اللغوبة ما لم يكن عقد راية ، أو وثوب على منبر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هذا عمرو بن سعيد ، حقه حقه ، وقرابته قرابته ، قال برأسه هكذا ، فقلنا [ ص: 384 ] بسيفنا هكذا ، وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي ، وقد أعطيت الله عهدا أن لا أضعها في رأس أحد إلا أخرجها الصعداء ، فليبلغ الشاهد الغائب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي : ثنا عباد بن سلم بن عثمان بن زياد ، عن أبيه عن جده ، قال : ركب عبد الملك بن مروان بكرا ، فأنشأ قائده يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها البكر الذي أراكا عليك سهل الأرض في ممشاكا     ويحك هل تعلم من علاكا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خليفة الله الذي امتطاكا     لم يحب بكرا مثل ما حباكا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما سمعه عبد الملك قال : إيها يا هناه ، قد أمرت لك بعشرة آلاف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي : خطب عبد الملك فحصر فقال : إن اللسان بضعة من الإنسان ، وإنا نسكت حصرا ، ولا ننطق هذرا ، ونحن أمراء الكلام ، فينا رسخت عروقه ، وعلينا تدلت أغصانه ، وبعد مقامنا هذا مقام ، وبعد عينا هذا مقال ، وبعد يومنا هذا أيام ، يعرف فيها فصل الخطاب ، وموضع الصواب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الأصمعي : قيل لعبد الملك : أسرع إليك الشيب . فقال : وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين !

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 385 ] وقال غيره : قيل لعبد الملك : أسرع إليك الشيب . فقال : شيبني كثرة ارتقاء المنبر ، ومخافة اللحن . ولحن رجل عند عبد الملك ، فقال له آخر : زد ألف . فقال له عبد الملك : وأنت فزد ألفا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزهري : سمعت عبد الملك يقول في خطبته : إن العلم سيقبض قبضا سريعا ، فمن كان عنده علم فليظهره ، غير غال فيه ولا جاف عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن أبي الدنيا ، أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة : سبحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة ، وكبروا بنا حتى نأتي تلك الحجر ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة ، فاكترى عليه بثلاثة عشر دينارا حتى أخرجه منها ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنه كان عليه اسم الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غير واحد : كان عبد الملك إذا جلس للقضاء بين الناس ، يقوم السيافون على رأسه بالسيوف ، فينشد - وقال بعضهم : يأمر من ينشد [ ص: 386 ] فيقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنا إذا نالت دواعي الهوى     وأنصت السامع للقائل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واصطرع الناس بألبابهم     نقضي بحكم عادل فاصل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا نجعل الباطل حقا ولا     نلط دون الحق بالباطل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نخاف أن تسفه أحلامنا     فنخمل الدهر مع الخامل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأعمش : أخبرني محمد بن الزبير ، أن أنس بن مالك كتب إلى عبد الملك يشكو الحجاج ، ويقول في كتابه : لو أن رجلا خدم عيسى ليلة واحدة ، أو خدمه فعرفته النصارى لنزل عندهم ، ولعرفوا له ذلك ، ولو أن رجلا خدم موسى أو رآه فعرفته اليهود فذكر نحوه ، وإني خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، وإن الحجاج قد أضر بي وفعل وفعل . قال : فأخبرني من شهد عبد الملك يقرأ الكتاب وهو يبكي ، وبلغ به الغضب ما شاء الله ، ثم كتب إلى الحجاج بكتاب غليظ ، فجاء إلى الحجاج ، فقرأه فتغير وجهه ، ثم قال إلى [ ص: 387 ] حامل الكتاب : انطلق بنا إليه نترضاه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن دريد : كتب عبد الملك إلى الحجاج في أيام ابن الأشعث : إنك أعز ما تكون بالله أحوج ما تكون إليه ، وإذا عززت بالله فاعف له ، فإنك به تعز وإليه ترجع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم : سأل رجل من عبد الملك أن يخلو به ، فأمر من عنده بالانصراف ، فلما تهيأ الرجل ليتكلم ، قال له عبد الملك : إياك أن تمدحني ; فإني أعلم بنفسي منك ، أو تكذبني ; فإنه لا رأي لكذوب ، أو تسعى إلي بأحد ، وإن شئت أقلتك . فقال الرجل : أقلني . فأقاله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكذا كان يقول للرسول إذا قدم عليه من الآفاق : اعفني من أربع ، وقل ما شئت ; لا تطرني ، ولا تجبني فيما لا أسألك عنه ، ولا تكذبني ، ولا تحملني على الرعية ; فإنهم إلى رأفتي ومعدلتي أحوج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي ، عن أبيه ، قال : أتي عبد الملك برجل كان مع بعض من خرج عليه ، فقال : اضربوا عنقه . فقال : يا أمير المؤمنين ، ما كان هذا جزائي [ ص: 388 ] منك! فقال : وما جزاؤك؟ فقال : والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك ، وذلك أني رجل مشئوم ، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم ، وقد بان لك صحة ما ادعيت ، وكنت عليك خيرا من مائة ألف معك . فضحك وخلى سبيله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل لعبد الملك : أي الرجال أفضل؟ قال : من تواضع عن رفعة ، وزهد عن قدرة ، وترك النصرة عن قوة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : لا طمأنينة قبل الخبرة ، فإن الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال : خير المال ما أفاد حمدا ودفع ذما ، ولا يقولن أحدكم : ابدأ بمن تعول ، فإن الخلق كلهم عيال الله . وينبغي أن يحمل هذا على غير ما ثبت به الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المدائني : قال عبد الملك لمؤدب أولاده - وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - : علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن ، وجنبهم السفلة ; فإنهم [ ص: 389 ] أسوأ الناس رعة ، وأقلهم أدبا ، وجنبهم الحشم ; فإنهم لهم مفسدة ، وأحف شعورهم ، تغلظ رقابهم ، وأطعمهم اللحم يقووا ، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا ، ومرهم أن يستاكوا عرضا ، ويمصوا الماء مصا ، ولا يعبوا عبا ، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب ; فليكن ذلك في سر لا يعلم بهم أحد من الغاشية ، فيهونوا عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الهيثم بن عدي : أذن عبد الملك للناس في الدخول عليه إذنا خاصا ، فدخل شيخ رث الهيئة لم يأبه له الحرس ، فألقى بين يدي عبد الملك صحيفة ، وخرج فلم يدر أين ذهب ، وإذا فيها :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم ، يا أيها الإنسان إن الله قد جعلك بينه وبين عباده ; فاحكم بينهم بالحق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( ص : 26 ) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ( المطففين : 4 - 6 ) . ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود ( هود : 103 ، 104 ) إن الذي أنت فيه لو بقي لغيرك ما وصل إليك ، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ( النمل : 52 ) [ ص: 390 ] وإني أحذرك يوم ينادي المنادي احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( الصافات : 22 ) ، أن لعنة الله على الظالمين ( الأعراف : 44 ) قال : فتغير وجه عبد الملك فدخل دار حرمه ، ولم تزل الكآبة في وجهه بعد ذلك أياما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب زر بن حبيش إلى عبد الملك كتابا ، وفي آخره : ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في طول البقاء ما يظهر لك من صحتك ، فأنت أعلم بنفسك ، واذكر ما تكلم به الأولون :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا الرجال ولدت أولادها     وبليت من كبر أجسادها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجعلت أسقامها تعتادها     تلك زروع قد دنا حصادها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما قرأه عبد الملك بكى حتى بل طرف ثوبه ، ثم قال : صدق زر ، ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسمع عبد الملك جماعة من أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب ، فقال : إيها عن ذكر عمر ؛ فإنه إزراء على الولاة ، مفسدة للرعية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه ، عن جده ، قال : كان [ ص: 391 ] عبد الملك يجلس في حلقة أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق ، فقالت له : بلغني أنك شربت الطلاء بعد العبادة والنسك . فقال : إي والله ، والدماء أيضا قد شربتها ، ثم جاءه غلام كان قد بعثه في حاجة ، فقال : ما حبسك ، لعنك الله ؟ فقالت أم الدرداء : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإني سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول : لا يدخل الجنة لعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : ثنا الحسين بن عبد الرحمن ، قال : قيل لسعيد بن المسيب : إن عبد الملك بن مروان قال : قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها ، ولا أحزن على السيئة أرتكبها . فقال سعيد : الآن تكامل موت قلبه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي عن أبيه قال : خطب عبد الملك يوما خطبة بليغة ، ثم قطعها وبكى بكاء شديدا ، ثم قال : يا رب إن ذنوبي عظيمة ، وإن قليل عفوك أعظم منها ، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي . قال : فبلغ ذلك الحسن فبكى ، وقال : لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام . وقد روي عن غير واحد نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو مسهر الدمشقي : وضع سماط عبد الملك يوما بين يديه [ ص: 392 ] فقال لحاجبه : ائذن لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد . فقال : مات يا أمير المؤمنين . قال : فأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد . قال : مات . قال : فلخالد بن يزيد بن معاوية . قال : مات . قال : فلفلان وفلان لأقوام قد ماتوا - وهو يعلم ذلك - فبكى ، وأمر برفع السماط ، وأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذهبت لداتي وانقضت أيامهم     وغيرت بعدهم ولست بخالد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنه لما احتضر دخل عليه ابنه الوليد فبكى ، فقال له عبد الملك : ما هذا ؟ أتحن حنين الجارية والأمة ؟ إذا أنا مت فشمر واتزر والبس جلد النمر ، وضع الأمور عند أقرانها ، واحذر قريشا ، ثم قال له : يا وليد ، اتق الله فيما أستخلفك فيه ، واحفظ وصيتي ، وانظر إلى أخي معاوية فصل رحمه ، واحفظني فيه ، وانظر إلى أخي محمد فأقره على الجزيرة ، ولا تعزله عنها ، وانظر ابن عمنا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته ، وله نسب وحق ، فصل رحمه واعرف حقه ، وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه ; فإنه هو الذي مهد لكم البلاد ، وقهر الأعداء ، وأخلص لكم الملك ، وشتت الخوارج ، وأنهاك وإخوتك عن الفرقة ، وكونوا أولاد أم واحدة ، وكونوا في [ ص: 393 ] الحرب أحرارا ، وللمعروف منارا ; فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها ، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه ، ويميل القلوب بالمحبة ، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل ، ولله در القائل :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الأمور إذا اجتمعن فرامها     بالكسر ذو حنق وبطش باليد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عزت فلم تكسر وإن هي بددت     فالكسر والتوهين للمتبدد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : إذا أنا مت فادع الناس إلى بيعتك ، فمن أبى فالسيف ، وعليك بالإحسان إلى إخوانك فأكرمهن ، وأحبهن إلي فاطمة - وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة - ثم قال : اللهم احفظني فيها ، فتزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما احتضر سمع غسالا يغسل الثياب ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : غسال . فقال : يا ليتني كنت غسالا ، أكسب ما أعيش به يوما بيوم ، ولم أل الخلافة ، ثم تمثل فقال :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 394 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لعمري لقد عمرت في الملك برهة     ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأعطيت جم المال والحكم والنهى     ودان قماقيم الملوك الجبابر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأضحى الذي قد كان مما يسرني     كحلم مضى في المزمنات الغوابر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا ليتني لم أعن بالملك ليلة     ولم أسع في لذات عيش نواضر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنت كذي طمرين عاش ببلغة     من العيش حتى زار ضيق المقابر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنشد هذه الأبيات معاوية بن أبي سفيان عند موته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو مسهر : قيل لعبد الملك في مرض موته : كيف تجدك ؟ فقال : أجدني كما قال الله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن عبد العزيز : لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من [ ص: 395 ] قصره ، فسمع قصارا ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قصار . فقال : يا ليتني كنت قصارا . فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله ، قال : الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : لما حضره الموت جعل يندم ويضرب بيده على رأسه ، ويقول : وددت أني أكسب قوتي يوما بيوم ، واشتغلت بطاعة الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم ، ثم قال : الحمد لله الذي لا ينسى أحدا من خلقه صغيرا أو كبيرا ، ثم ينشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فهل من خالد إما هلكنا     وهل بالموت يا للناس عار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويروى أنه قال : ارفعوني ، فرفعوه حتى شم الهواء ، وقال : يا دنيا ، ما أطيبك ! إن طويلك لقصير ، وإن كثيرك لحقير ، وإن كنا بك لفي غرور . ثم تمثل بهذين البيتين ، ويروى أن معاوية قالهما في هذه الحال :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 396 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن تناقش يكن نقاشك يا رب     عذابا لا طوق لي بالعذاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أو تجاوز فأنت رب صفوح     عن مسيء ذنوبه كالتراب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة . وقيل : يوم الأربعاء . وقيل : الخميس في النصف من شوال . وقيل : لخمس مضين منه سنة ست وثمانين ، وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده ، وكان عمره يوم مات ستين سنة ، قاله : أبو معشر ، وصححه الواقدي . وقيل : ثلاثا وستين سنة ، قاله المدائني . وقيل : ثمان وخمسين . ودفن بباب الجابية الصغير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : ذكر أولاده وأزواجه : منهم الوليد ، وسليمان ، ومروان الأكبر - درج - وعائشة ، وأمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويزيد ، ومروان الأصغر ، ومعاوية - درج - وأم كلثوم ، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان . وهشام ، وأمه أم هشام عائشة - فيما قاله [ ص: 397 ] المدائني - بنت هشام بن إسماعيل المخزومي . وأبو بكر ، واسمه بكار ، وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي ، والحكم - درج - وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان الأموي ، وفاطمة ، وأمها المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي . وعبد الله ، ومسلمة ، والمنذر ، وعنبسة ، ومحمد ، وسعد الخير ، والحجاج لأمهات أولاد شتى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكان جملة أولاده تسعة عشر ; ذكورا وإناثا ، وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة منها تسع سنين مشاركالابن الزبير ، وثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصف مستقلا بالخلافة وحده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان قاضيه أبو إدريس الخولاني ، وكاتبه روح بن زنباع ، وحاجبه يوسف مولاه ، وصاحب بيت المال والخاتم قبيصة بن ذؤيب ، وعلى شرطته أبو الزعيزعة ، وقد ذكرنا عماله فيما مضى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال المدائني : وكان له زوجات أخر شقراء بنت سلمة بن حلبس الطائي ، وابنة لعلي بن أبي طالب ، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية