الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 5 ] أبو عبيدة بن الجراح ( م ، ق )

                                                                                      عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، القرشي الفهري المكي .

                                                                                      أحد السابقين الأولين ، ومن عزم الصديق على توليته الخلافة ، وأشار به يوم [ ص: 6 ] السقيفة ، لكمال أهليته عند أبي بكر يجتمع في النسب هو والنبي - صلى الله عليه وسلم - في فهر ، شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ، وسماه أمين الأمة ، ومناقبه شهيرة جمة .

                                                                                      روى أحاديث معدودة وغزا غزوات مشهودة .

                                                                                      حدث عنه العرباض بن سارية ، وجابر بن عبد الله ، وأبو أمامة الباهلي ، وسمرة بن جندب ، وأسلم مولى عمر ، وعبد الرحمن بن غنم ، وآخرون .

                                                                                      له في " صحيح مسلم " حديث واحد ، وله في " جامع أبي عيسى " حديث ، وفي " مسند بقي " له خمسة عشر حديثا .

                                                                                      الرواية عنه : أخبرنا أبو المعالي محمد بن عبد السلام التميمي ، قراءة عليه في سنة أربع وتسعين وست مائة ، أنبأنا أبو روح عبد المعز بن محمد البزاز ، أنبأنا تميم بن أبي سعيد أبو القاسم المعري ، في رجب سنة تسع وعشرين وخمس مائة بهراة ، أنبأنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن ، أنبأنا أبو عمرو بن حمدان ، أخبرنا أبو يعلى أحمد بن علي ، حدثنا عبد الله بن معاوية القرشي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عبد الله بن سراقة ، عن أبي عبيدة بن الجراح : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " إنه لم [ ص: 7 ] يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر قومه الدجال ، وإني أنذركموه " . فوصفه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لعله سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي . قالوا : يا رسول الله ، كيف قلوبنا يومئذ ؟ أمثلها اليوم ؟ قال : أو خير " .

                                                                                      أخرجه الترمذي عن عبد الله الجمحي فوافقناه بعلو . وقال : وفي الباب عن عبد الله بن بسر وغيره . وهذا حديث حسن غريب من حديث أبي عبيدة - رضي الله عنه .

                                                                                      قال ابن سعد في " الطبقات " : أخبرنا محمد بن عمر ، حدثني ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن مالك بن يخامر أنه وصف أبا عبيدة فقال : كان رجلا نحيفا ، معروق الوجه ، خفيف اللحية ، طوالا ، أحنى أثرم الثنيتين .

                                                                                      وأخبرنا محمد بن عمر ، حدثنا محمد بن صالح ، عن يزيد بن رومان قال : انطلق ابن مظعون ، وعبيدة بن الحارث ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة [ ص: 8 ] بن عبد الأسد ، وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرض عليهم الإسلام ، وأنبأهم بشرائعه ، فأسلموا في ساعة واحدة ، وذلك قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم .

                                                                                      وقد شهد أبو عبيدة بدرا ، فقتل يومئذ أباه ، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا ، ونزع يومئذ الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضربة أصابته ، فانقلعت ثنيتاه ، فحسن ثغره بذهابهما ، حتى قيل : ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة .

                                                                                      وقال أبو بكر الصديق وقت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسقيفة بني ساعدة : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : عمر ، وأبا عبيدة .

                                                                                      قال الزبير بن بكار : قد انقرض نسل أبي عبيدة ، وولد إخوته جميعا ، وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة . قاله ابن إسحاق ، والواقدي .

                                                                                      قلت : إن كان هاجر إليها ، فإنه لم يطل بها اللبث .

                                                                                      وكان أبو عبيدة معدودا فيمن جمع القرآن العظيم .

                                                                                      قال موسى بن عقبة في " مغازيه " : غزوة عمرو بن العاص هي غزوة ذات السلاسل من مشارف الشام ، فخاف عمرو من جانبه ذلك ، فاستمد رسول [ ص: 9 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ، فانتدب أبا بكر وعمر في سراة من المهاجرين ، فأمر نبي الله عليهم أبا عبيدة ، فلما قدموا على عمرو بن العاص قال : أنا أميركم ، فقال المهاجرون : بل أنت أمير أصحابك ، وأميرنا أبو عبيدة . فقال عمرو : إنما أنتم مدد أمددت بكم . فلما رأى ذلك أبو عبيدة بن الجراح ، وكان رجلا حسن الخلق ، لين الشيمة ، متبعا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده ، فسلم الإمارة لعمرو .

                                                                                      وثبت من وجوه عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لكل أمة أمينا ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " .

                                                                                      أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الفقيه وغيره ، إجازة ، قالوا : أخبرنا حنبل بن عبد الله ، أنبأنا هبة الله بن محمد ، أنبأنا أبو علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، عن شريح بن عبيد ، وراشد بن سعد ، وغيرهما قالوا : لما بلغ عمر بن الخطاب سرغ حدث أن بالشام وباء شديدا ، فقال : إن أدركني [ ص: 10 ] أجلي وأبو عبيدة حي ، استخلفته ، فإن سألني الله - عز وجل - : لم استخلفته على أمة محمد ؟ قلت : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن لكل أمة أمينا ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " . قال : فأنكر القوم ذلك ، وقالوا : ما بال علياء قريش ؟ يعنون بني فهر . ثم قال : وإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة ، أستخلف معاذ بن جبل ، فإن سألني ربي ، قلت : إني سمعت نبيك يقول : " إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة " .

                                                                                      وروى حماد بن سلمة ، عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عمرو بن العاص قال : قيل : يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . قيل من الرجال ؟ قال : أبو بكر ، قيل : ثم من ؟ قال : ثم أبو عبيدة بن الجراح .

                                                                                      كذا يرويه حماد ، وخالفه جماعة . فرووه عن الجريري ، عن عبد الله قال : سألت عائشة : أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إليه ؟ قالت : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم أبو عبيدة بن الجراح . [ ص: 11 ] أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل ، أنبأنا عبد الله بن أحمد الفقيه ، أنبأنا محمد بن عبد الباقي ، أنبأنا أبو الفضل بن خيرون ، أنبأنا أحمد بن محمد بن غالب ، بقراءته على أبي العباس بن حمدان ، حدثكم محمد بن أيوب ، أنبأنا أبو الوليد ، أنبأنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، سمعت صلة بن زفر . عن حذيفة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني أبعث إليكم رجلا أمينا " ، فاستشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث أبا عبيدة بن الجراح .

                                                                                      اتفقا عليه من حديث شعبة .

                                                                                      واتفقا من حديث خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن محمد المعلم ، أنبأنا أبو القاسم بن رواحة ، أنبأنا أبو طاهر الحافظ ، أنبأنا أحمد بن علي الصوفي ، وأبو غالب الباقلاني ، وجماعة ، قالوا : أنبأنا أبو القاسم بن بشران ، أنبأنا أبو محمد الفاكهي بمكة ، حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى الواسطي ، أنبأنا يحيى بن أبي زكريا ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : كنت [ ص: 12 ] في الجيش الذين مع خالد ، الذين أمد بهم أبا عبيدة وهو محاصر دمشق ، فلما قدمنا عليهم ، قال لخالد : تقدم فصل; فأنت أحق بالإمامة ؛ لأنك جئت تمدني . فقال خالد : ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " .

                                                                                      أبو بكر بن أبي شيبة : أنبأنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة ، عن حذيفة قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقفا نجران : العاقب والسيد ، فقالا : ابعث معنا أمينا حق أمين . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " ، فاستشرف لها الناس ، فقال : قم يا أبا عبيدة ، فأرسله معهم .

                                                                                      قال : وحدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق نحوه .

                                                                                      الترقفي في " جزئه " حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا أبو حسبة مسلم بن أكيس مولى ابن كريز ، عن أبي عبيدة قال : ذكر لي من [ ص: 13 ] دخل عليه فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك يا أبا عبيدة ؟ قال : يبكيني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوما ما يفتح الله على المسلمين ، حتى ذكر الشام فقال : " إن نسأ الله في أجلك فحسبك من الخدم ثلاثة : خادم يخدمك ، وخادم يسافر معك ، وخادم يخدم أهلك ، وحسبك من الدواب ثلاثة : دابة لرحلك ، ودابة لثقلك ، ودابة لغلامك " . ثم هأنذا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقا ، وإلى مربطي قد امتلأ خيلا ، فكيف ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها ؟ وقد أوصانا : " إن أحبكم إلي ، وأقربكم مني ، من لقيني على مثل الحال التي فارقتكم عليها " .

                                                                                      حديث غريب رواه أيضا أحمد في " مسنده " عن أبي المغيرة .

                                                                                      وكيع بن الجراح ، حدثنا مبارك بن فضالة عن الحسن ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما منكم من أحد إلا لو شئت لأخذت عليه بعض خلقه ، إلا أبا عبيدة " . هذا مرسل .

                                                                                      وكان أبو عبيدة موصوفا بحسن الخلق ، وبالحلم الزائد والتواضع .

                                                                                      قال محمد بن سعد : حدثنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن [ ص: 14 ] أبي نجيح ، قال عمر لجلسائه : تمنوا ، فتمنوا ، فقال عمر : لكني أتمنى بيتا ممتلئا رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح .

                                                                                      وقال ابن أبي شيبة : قال [ ابن ] علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أصحابي أحد إلا لو شئت أخذت عليه ، إلا أبا عبيدة " .

                                                                                      وسفيان الثوري : عن أبي إسحاق; عن أبي عبيدة قال : قال ابن مسعود : " أخلائي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة " .

                                                                                      خالفه غيره ففي " الجعديات " : أنبأنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي [ ص: 15 ] الأحوص ، عن عبد الله فذكره .

                                                                                      قال خليفة بن خياط : وقد كان أبو بكر ولى أبا عبيدة بيت المال .

                                                                                      قلت : يعني أموال المسلمين; فلم يكن بعد عمل بيت مال ، فأول من اتخذه عمر .

                                                                                      قال خليفة : ثم وجهه أبو بكر إلى الشام سنة ثلاث عشرة أميرا ، وفيها استخلف عمر ، فعزل خالد بن الوليد ، وولى أبا عبيدة .

                                                                                      قال القاسم بن يزيد : حدثنا سفيان ، عن زياد بن فياض ، عن تميم بن سلمة ، أن عمر لقي أبا عبيدة ، فصافحه ، وقبل يده ، وتنحيا يبكيان .

                                                                                      وقال ابن المبارك في " الجهاد " له : عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : بلغ عمر أن أبا عبيدة حصر بالشام ، ونال منه العدو ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة ، إلا جعل الله بعدها فرجا ، وإنه لا يغلب عسر يسرين يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا الآية .

                                                                                      قال : فكتب إليه أبو عبيدة : أما بعد ، فإن الله يقول : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلى قوله : متاع الغرور قال : فخرج عمر [ ص: 16 ] بكتابه ، فقرأه على المنبر فقال : يا أهل المدينة ، إنما يعرض بكم أبو عبيدة أو بي ، ارغبوا في الجهاد .

                                                                                      ابن أبي فديك; عن هشام بن سعد ، عن زيد ، عن أبيه قال : بلغني أن معاذا سمع رجلا يقول : لو كان خالد بن الوليد ، ما كان بالناس دوك وذلك في حصر أبي عبيدة . فقال معاذ : فإلى أبي عبيدة تضطر المعجزة لا أبا لك! والله إنه لخير من بقي على الأرض .

                                                                                      رواه البخاري في " تاريخه " ، وابن سعد .

                                                                                      وفي " الزهد " لابن المبارك : حدثنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قدم عمر الشام ، فتلقاه الأمراء والعظماء ، فقال : أين أخي أبو عبيدة ؟ قالوا : يأتيك الآن . قال : فجاء على ناقة مخطومة بحبل ، فسلم عليه ، ثم قال للناس : انصرفوا عنا . فسار معه حتى أتى منزله ، فنزل عليه ، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله ، فقال له عمر : لو اتخذت متاعا ، أو قال شيئا ، فقال : يا [ ص: 17 ] أمير المؤمنين ، إن هذا سيبلغنا المقيل .

                                                                                      ابن وهب : حدثني عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن عمر حين‌‌‌ قدم الشام ، قال لأبي عبيدة : اذهب بنا إلى منزلك ، قال : وما تصنع عندي ؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي . قال : فدخل ، فلم ير شيئا ، قال : أين متاعك ؟ لا أرى إلا لبدا وصحفة وشنا ، وأنت أمير ، أعندك طعام ؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة ، فأخذ منها كسيرات ، فبكى عمر ، فقال له أبو عبيدة : قد قلت لك : إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين ، يكفيك ما يبلغك المقيل . قال عمر : غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة .

                                                                                      أخرجه أبو داود في " سننه " من طريق ابن الأعرابي .

                                                                                      وهذا والله هو الزهد الخالص ، لا زهد من كان فقيرا معدما .

                                                                                      معن بن عيسى ، عن مالك : أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف ، أو بأربع مائة دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع بها ، قال : فقسمها أبو عبيدة ، ثم أرسل إلى معاذ بمثلها ، قال : فقسمها ، إلا شيئا قالت له امرأته نحتاج إليه ، فلما أخبر الرسول عمر ، قال : الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع [ ص: 18 ] هذا .

                                                                                      الفسوي حدثنا أبو اليمان ، عن جرير بن عثمان ، عن أبي الحسن عمران بن نمران ، أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر فيقول : ألا رب مبيض لثيابه ، مدنس لدينه! ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين! بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات .

                                                                                      وقال ثابت ‌البناني : قال أبو عبيدة : يا أيها الناس ، إني امرؤ من قريش ، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى ، إلا وددت أني في مسلاخه .

                                                                                      معمر : عن قتادة ، قال أبو عبيدة بن الجراح : وددت أني كنت كبشا ، فيذبحني أهلي ، فيأكلون لحمي ، ويحسون مرقي .

                                                                                      وقال عمران بن حصين : وددت أني رماد تسفيني الريح .

                                                                                      شعبة : عن قيس بن مسلم عن طارق ، أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون : إنه قد عرضت لي حاجة ، ولا غنى بي عنك فيها ، فعجل إلي . فلما قرأ الكتاب ، قال : عرفت حاجة أمير المؤمنين ، إنه يريد أن يستبقي من ليس بباق ، فكتب : إني قد عرفت حاجتك ، فحللني من عزيمتك; فإني في جند [ ص: 19 ] من أجناد المسلمين ، لا أرغب بنفسي عنهم . فلما قرأ عمر الكتاب بكى ، فقيل له : مات أبو عبيدة ؟ قال : لا . وكأن قد .

                                                                                      قال : فتوفي أبو عبيدة ، وانكشف الطاعون .

                                                                                      قال أبو الموجه محمد بن عمرو المروزي : زعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفا من الجند ، فلم يبق منهم إلا ستة آلاف رجل .

                                                                                      أخبرنا محمد بن عبد السلام ، عن أبي روح ، أنبأنا أبو سعد ، أنبأنا ابن حمدان ، أنبأنا أبو يعلى ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، حدثنا مهدي بن ميمون ، حدثنا واصل مولى أبي عيينة ، عن ابن أبي سيف المخزومي ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، شامي فقيه ، عن عياض بن غطيف ، قال : دخلت على أبي عبيدة بن الجراح في مرضه ، وامرأته تحيفة جالسة عند رأسه ، وهو مقبل بوجهه على الجدار ، فقلت : كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت : بات بأجر . فقال : إني والله ما بت بأجر! فكأن القوم ساءهم ، فقال : ألا تسألوني عما قلت ؟ قالوا : إنا لم يعجبنا ما قلت ، فكيف نسألك ؟ قال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله ، فبسبع مائة ، ومن أنفق على عياله ، أو عاد مريضا ، أو ماز أذى فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم [ ص: 20 ] جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده ، فهو له حطة " .

                                                                                      أنبأنا جماعة قالوا : أنبأنا ابن طبرزد ، أنبأنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن غيلان ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا محمد بن أبان الواسطي ، حدثني جرير بن حازم ، حدثني بشار بن أبي سيف ، حدثني الوليد بن عبد الرحمن ، عن عياض بن غطيف ، قال : مرض أبو عبيدة ، فدخلنا عليه نعوده ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الصيام جنة ما لم يخرقها " .

                                                                                      وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة غير مرة ، منها المرة التي جاع فيها عسكره ، وكانوا ثلاث ما‏ئة ، فألقى لهم البحر الحوت الذي يقال له العنبر ، فقال أبو عبيدة : ميتة ، ثم قال : لا ، نحن رسل رسول الله ، وفي سبيل الله ، فكلوا ، وذكر الحديث ، وهو في " الصحيحين " . [ ص: 21 ] ولما تفرغ الصديق من حرب أهل الردة ، وحرب مسيلمة الكذاب ، جهز أمراء الأجناد لفتح الشام ، فبعث أبا عبيدة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة ، فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة ، ونصر الله المؤمنين ، فجاءت البشرى ، والصديق في مرض الموت ، ثم كانت وقعة فحل ووقعة مرج الصفر وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق ، ثم بعث إليه لينجد من بالشام ، فقطع المفاوز على برية السماوة ، فأمره الصديق على الأمراء كلهم ، وحاصروا دمشق ، وتوفي أبو بكر ، فبادر عمر بعزل خالد ، واستعمل على الكل أبا عبيدة ، فجاءه التقليد ، فكتمه مدة ، وكل هذا من دينه ولينه وحلمه ، فكان فتح دمشق على يده ، فعند ذلك أظهر التقليد ؛ ليعقد [ ص: 22 ] الصلح للروم ، ففتحوا له باب الجابية صلحا ، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي ، فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح .

                                                                                      فعن المغيرة : أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم ، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك ، التي استأصل الله فيها جيوش الروم ، وقتل منهم خلق عظيم .

                                                                                      روى ابن المبارك في " الزهد " له ، قال : أنبأنا عبد الحميد بن‌‌‌ بهرام ، عن شهر بن حوشب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن غنم ، عن حديث الحارث بن عميرة قال : أخذ بيدي معاذ بن جبل ، فأرسله إلى أبي عبيدة ، فسأله كيف هو ؟ وقد طعنا ، فأراه أبو عبيدة طعنة ، خرجت في كفه ، فتكاثر شأنها في نفس الحارث ، وفرق منها حين رآها ، فأقسم أبو عبيدة بالله : ما يحب أن له مكانها حمر النعم .

                                                                                      وعن الأسود : عن عروة : أن وجع عمواس كان معافى منه أبو عبيدة وأهله ، فقال : اللهم نصيبك في آل أبي عبيدة . قال : فخرجت بأبي عبيدة في خنصره بثرة ، فجعل ينظر إليها ، فقيل له : إنها ليست بشيء . فقال : أرجو أن يبارك الله فيها; فإنه إذا بارك في القليل كان كثيرا .

                                                                                      الوليد بن مسلم : حدثني أبو بكر بن أبي مريم ، عن صالح بن أبي المخارق قال : انطلق أبو عبيدة من الجابية إلى بيت المقدس للصلاة ، [ ص: 23 ] فاستخلف على الناس معاذ بن جبل .

                                                                                      قال الوليد : فحدثني من سمع عروة بن رويم قال : فأدركه أجله بفحل ، فتوفي بها بقرب بيسان .

                                                                                      طاعون عمواس منسوب إلى قرية عمواس ، وهي بين الرملة وبين بيت المقدس ، وأما الأصمعي فقال هو من قولهم زمن الطاعون : عم وآسى .

                                                                                      قال أبو حفص الفلاس : توفي أبو عبيدة في سنة ثمان عشرة ، وله ثمان وخمسون سنة ، وكان يخضب بالحناء ، والكتم وكان له عقيصتان . وقال كذلك في وفاته جماعة ، وانفرد ابن عائذ ، عن أبي مسهر أنه قرأ في كتاب يزيد بن عبيدة ، أن أبا عبيدة توفي سنة سبع عشرة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية