الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

الحمد لله على أن بين للمستهدين معالم مراده ، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانونا عاما معصوما ، وأعجز بعجائبه فظهرت يوما فيوما ، وجعله مصدقا لما بين يديه ومهيمنا ، وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئا ويعد محسنا ، حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد ، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد ، فكان الحال بتصديقه أنطق من اللسان ، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان ، وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق ، كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق ، فبه أصبح الرسول الأمي سيد الحكماء المربين ، وبه شرح صدره إذ قال إنك على الحق المبين ، فلم يزل كتابه مشعا نيرا ، محفوظا من لدنه أن يترك فيكون مبدلا ومغيرا .

ثم قيض لتبيينه أصحابه الأشداء الرحماء ، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء ، فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين ، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين ، أما بعد : فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد ، تفسير الكتاب المجيد ، الجامع لمصالح الدنيا والدين ، وموثق شديد العرى من الحق المتين ، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها ، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها ; طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع ، وتفاصيل من مكارم الأخلاق ، كان يلوح أنموذجا من جميعها في خلال تدبره ، أو مطالعة كلام مفسره ، ولكني كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحم على هذا [ ص: 6 ] المجال ، وأحجم عن الزج بسية قوسي في هذا النضال . اتقاء ما عسى أن يعرض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة ، أو فلتات سهام الفهم ، وإن بلغ ساعد الذهن كمال الفتوة . فبقيت أسوف النفس مرة ومرة أسومها زجرا ، فإن رأيت منها تصميما أحلتها على فرصة أخرى ، وأنا آمل أن يمنح من التيسير ، ما يشجع على قصد هذا الغرض العسير .

وفيما أنا بين إقدام وإحجام ، أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وأخرى الثمام . إذا أنا بأملي قد خيل إلي أنه تباعد أو انقضى ، إذ قدر أن تسند إلي خطة القضا ، فبقيت متلهفا ولات حين مناص ، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص ، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان ، وأضرب المثل بأبي الوليد ابن رشد في كتاب البيان ، ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه ، إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة ، فإذا الله قد من بالنقلة إلى خطة الفتيا ، وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا ، فتحول إلى الرجاء ذلك اليأس ، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ، هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته ، واستعنت بالله تعالى واستخرته ، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط ، لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط ، إذا بذلت الوسع من الاجتهاد ، وتوخيت طرق الصواب والسداد .

أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع ، على وادي السباع ; متوسطا في معترك أنظار [ ص: 7 ] الناظرين ، وزائرا بين ضباح الزائرين ، فجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها ، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها ، فإن الاقتصار على الحديث المعاد ، تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد ، ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين : رجل معتكف فيما شاده الأقدمون ، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون ، وفي كلتا الحالتين ضر كثير ، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير ، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده ، وحاشا أن ننقضه أو نبيده ، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة ، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة ، فالحمد لله الذي صدق الأمل ، ويسر إلى هذا الخير ودل .

والتفاسير وإن كانت كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لا حظ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل .

وإن أهم التفاسير تفسير الكشاف ، والمحرر الوجيز لابن عطية ، ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي ، وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع ، وتفسير الشهاب الألوسي ، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني على الكشاف ، وما كتبه الخفاجي على تفسير البيضاوي ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير القرطبي ، والموجود من تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي من تقييد تلميذه الأبي ، وهو بكونه تعليقا على تفسير ابن عطية أشبه منه بالتفسير ، لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن وتفاسير الأحكام ، وتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري ، وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي ، وربما ينسب للراغب الأصفهاني .

ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها ، وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية ، مما لا يذكره المفسرون ، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة ، ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر ، فكم من كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم ، [ ص: 8 ] وكم من فهم تستظهره ، وقد تقدمك إليه متفهم ، وقديما قيل :

هل غادر الشعراء من متردم

إن معاني القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزعة على آياته ، فالأحكام مبينة في آيات الأحكام ، والآداب في آياتها ، والقصص في مواقعها ، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر .

وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان ، ولكن فنا من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونكته آية من آيات القرآن ، وهو فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى ، من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما ألهمته بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر .

وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ، ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال ، واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض ، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي ، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى نظم الدرر في تناسب الآي والسور إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع ، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع ، أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض ، فلا أراه حقا على المفسر .

ولم أغادر سورة إلا بينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله .

واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة . وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده ، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده ، فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير ، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير ، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير ، ففيه أحسن ما في التفاسير ، وفيه أحسن مما في التفاسير .

وسميته :

تحرير المعنى السديد ، وتنوير العقل الجديد ، من تفسير الكتاب المجيد [ ص: 9 ] واختصرت هذا الاسم باسم " التحرير والتنوير من التفسير " وها أنا أبتدئ بتقديم مقدمات تكون عونا للباحث في التفسير ، وتغنيه عن معاد كثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية