الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 61 ] 1 - الحديث الأول : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إنما الأعمال بالنيات } وفي رواية : { بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه } .

                                        التالي السابق


                                        أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بكسر الراء المهملة بعدها ياء آخر الحروف وبعدها حاء مهملة ابن عبد الله بن قرط بن رزاح بفتح الراء المهملة بعدها زاي معجمة وحاء مهملة ابن عدي بن كعب القرشي العدوي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي أسلم بمكة قديما ، وشهد المشاهد كلها ، وولي الخلافة بعد أبي بكر الصديق ، وقتل سنة [ ص: 62 ] ثلاث وعشرين من الهجرة في ذي الحجة لأربع مضين ، وقيل لثلاث .

                                        ثم الكلام على هذا الحديث من وجوه :

                                        أحدها : أن المصنف رحمه الله بدأ به لتعلقه بالطهارة ، وامتثل قول من قال من المتقدمين : إنه ينبغي أن يبتدأ به في كل تصنيف ووقع موافقا لما قاله .

                                        الثاني : كلمة إنما للحصر ، على ما تقرر في الأصول ، فإن ابن عباس رضي الله عنهما فهم الحصر من قوله صلى الله عليه وسلم { إنما الربا في النسيئة } وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ، ولم يعارض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر .

                                        ومعنى الحصر فيها : إثبات الحكم في المذكور ، ونفيه عما عداه .

                                        وهل نفيه عما عداه : بمقتضى موضوع اللفظ ، أو هو من طريق المفهوم ؟ فيه بحث .

                                        الثالث : إذا ثبت أنها للحصر : فتارة تقتضي الحصر المطلق ، وتارة تقتضي حصرا مخصوصا .

                                        ويفهم ذلك بالقرائن والسياق .

                                        كقوله تعالى : { إنما أنت منذر } وظاهر ذلك : الحصر للرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة .

                                        والرسول لا ينحصر في النذارة ، بل له أوصاف جميلة كثيرة ، كالبشارة وغيرها .

                                        ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصره في النذارة لمن يؤمن ، ونفي كونه قادرا على إنزال ما شاء الكفار من الآيات .

                                        وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي } معناه : حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم ، لا بالنسبة إلى كل شيء .

                                        فإن للرسول صلى الله عليه وسلم أوصافا أخر كثيرة .

                                        وكذلك قوله تعالى { إنما الحياة الدنيا لعب } يقتضي - والله أعلم - الحصر باعتبار من آثرها . وأما بالنسبة إلى ما هو في نفس الأمر : فقد تكون سبيلا إلى الخيرات ، أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل .

                                        فإذا وردت لفظة " إنما " فاعتبرها ، فإن دل السياق [ ص: 63 ] والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص : فقل به .

                                        وإن لم يكن في شيء مخصوص : فاحمل الحصر على الإطلاق .

                                        ومن هذا : قوله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات } والله أعلم .



                                        الرابع : ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب ، قد يطلق عليه عمل ، ولكن الأسبق إلى الفهم : تخصيص العمل بأفعال الجوارح ، وإن كان ما يتعلق بالقلوب فعلا للقلوب أيضا .

                                        ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصص الأعمال بما لا يكون قولا .

                                        وأخرج الأقوال من ذلك وفي هذا عندي بعد .

                                        وينبغي أن يكون لفظ " العمل " يعم جميع أفعال الجوارح .

                                        نعم لو كان خصص بذلك لفظ " الفعل " لكان أقرب .

                                        فإنهم استعملوهما متقابلين ، فقالوا : الأفعال ، والأقوال .

                                        ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضا .

                                        والله أعلم .



                                        الخامس : قوله صلى الله عليه وسلم { الأعمال بالنيات } لا بد فيه من حذف مضاف .

                                        فاختلف الفقهاء في تقديره .

                                        فالذين اشترطوا النية ، قدروا : " صحة الأعمال بالنيات " أو ما يقاربه .

                                        والذين لم يشترطوها : قدروه " كمال الأعمال بالنيات " أو ما يقاربه .

                                        وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال ، فالحمل عليها أولى ; لأن ما كان ألزم للشيء : كان أقرب إلى خطوره بالبال عند إطلاق اللفظ . فكان الحمل عليه أولى .

                                        وكذلك قد يقدرونه " إنما اعتبار الأعمال بالنيات " وقد قرب ذلك بعضهم بنظائر من المثل ، كقولهم : إنما الملك بالرجال ; أي قوامه ووجوده .

                                        وإنما الرجال بالمال .

                                        وإنما المال بالرعية .

                                        وإنما الرعية بالعدل .

                                        كل ذلك يراد به : أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور .



                                        السادس : قوله صلى الله عليه وسلم { وإنما لكل امرئ ما نوى } يقتضي أن من نوى شيئا يحصل له ، وكل ما لم ينوه لم يحصل له فيدخل تحت ذلك ما لا ينحصر من المسائل .

                                        ومن هذا عظموا هذا الحديث .

                                        فقال بعضهم : يدخل في حديث { الأعمال بالنيات } ثلثا العلم .

                                        فكل مسألة خلافية حصلت فيها نية ، فلك أن [ ص: 64 ] تستدل بهذا على حصول المنوي .

                                        وكل مسألة خلافية لم تحصل فيها نية ، فلك أن تستدل بهذا على عدم حصول ما وقع في النزاع .

                                        [ وسيأتي ما يقيد به هذا الإطلاق ] فإن جاء دليل من خارج يقتضي أن المنوي لم يحصل ، أو أن غير المنوي يحصل ، وكان راجحا : عمل به وخصص هذا العموم .



                                        السابع : قوله " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " اسم " الهجرة " يقع على أمور ، الهجرة الأولى : إلى الحبشة .

                                        عندما آذى الكفار الصحابة .

                                        الهجرة الثانية : من مكة إلى المدينة .

                                        الهجرة الثالثة : هجرة القبائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتعلم الشرائع ، ثم يرجعون إلى المواطن ، ويعلمون قومهم .

                                        الهجرة الرابعة : هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى مكة .

                                        الهجرة الخامسة : هجرة ما نهى الله عنه .

                                        ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع ، غير أن السبب يقتضي : أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة ; لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس .

                                        فسمي مهاجر أم قيس ولهذا خص في الحديث ذكر المرأة ، دون سائر ما تنوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية ، ثم أتبع بالدنيا .

                                        الثامن : المتقرر عند أهل العربية : أن الشرط والجزاء والمبتدأ أو الخبر ، لا بد وأن يتغايرا .

                                        وههنا وقع الاتحاد في قوله { فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله } وجوابه : أن التقدير : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا ، فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا .

                                        التاسع : شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف في أسباب الحديث ، كما صنف في أسباب النزول للكتاب العزيز .

                                        فوقفت من ذلك على شيء يسير له .

                                        وهذا الحديث - على ما قدمنا من الحكاية عن مهاجر أم قيس - واقع على سبب يدخله في هذا القبيل .

                                        وتنضم إليه نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه . [ ص: 65 ]

                                        العاشر : فرق بين قولنا " من نوى شيئا لم يحصل له غيره " وبين قولنا " من لم ينو الشيء لم يحصل له " والحديث محتمل للأمرين .

                                        أعني قوله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات } وآخره يشير إلى المعنى الأول ، أعني قوله { ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه } .




                                        الخدمات العلمية