الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 243 ] السابعة : فيمن يمتنع قتله من الكفار في الحرب ، فيكره للغازي قتل قريبه ، فإن كان القريب محرما ازدادت الكراهة ، فإن سمع أبا ، أو قريبا آخر يذكر الله تعالى ، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - بسوء ، لم يكره قتله ، ويحرم قتل نساء الكفار وصبيانهم والمجانين والخناثى ، فإن قاتلوا ، جاز قتلهم ، ولو أسر منهم مراهق ، وشككنا في بلوغه ، كشفت عانته ، فإن كان أنبت ، حكم ببلوغه ، وإلا فهو صبي ، وقد سبق في كتاب الحجر قولان في أن الإنبات بلوغ أم دليل بلوغ ، فإن قال المأسور : استعجلت الشعر بالدواء ، فإن قلنا : هو بلوغ ، لم يقبل قوله ، بل يحكم ببلوغه ، وإن قلنا : دليل البلوغ وهو الأظهر ، فيصدق بيمينه ، ويحكم بالصغر ، هكذا نص عليه وبه أخذ الأصحاب وذكروا فيه إشكالين ، أحدهما : أن اليمين تعمل في النفي وهذه لإثبات الاستعجال ، وأجيب بأنا فعلناه لحقن الدم ، وقد يخالف القياس لذلك ، ولهذا قبلنا جزية المجوس دون نكاحهم ، والثاني : كيف يحلف من يدعي الصبا ، فقال بعض الأصحاب : اليمين احتياط أو استظهار لا واجبة ، وقال الجمهور : لا بد منها ؛ لأن الدليل الظاهر موجود ، فلا يترك بمجرد قوله ، وقد سبق في الحجر أن المعتبر الشعر الخشن دون اللين ، وأن في إلحاق شعر الإبط والوجه الخشن بالعانة وجهين ، ونبات الشارب كاللحية ، ولا أثر لاخضراره .

                                                                                                                                                                        الثامنة : في جواز قتل الراهب ، شيخا كان أو شابا ، والأجير والمحترف المشغول بحرفته ، والشيخ الضعيف والأعمى والزمن ، ومقطوع اليد والرجل قولان ، أظهرهما : الجواز . وقيل : يقتل الأجير والمحترف قطعا ، فإن كان فيهم من له رأي يستعين الكفار برأيه وتدبير الحرب ، قتل قطعا ، ثم الذي يفهم من كلام الأصحاب أنه لا فرق بين [ ص: 244 ] أن يحضر ذو الرأي في صف القتال ، أو لا يحضر في أنه يجوز قتله ، ولا بين أن يقدر على الأخرق منهم في صف القتال ، أو يدخل بعض بلادهم ، فيجده هناك في أن في قتله القولين ، وفي السوقة طريقان ، المذهب : القطع بقتلهم ، والثاني : على القولين ، فإن جوزنا قتل هؤلاء ، جاز استرقاقهم ، وسبي نسائهم وصبيانهم ، واغتنام أموالهم ، وإلا فالمذهب أنهم يرقون بنفس الأسر كالنساء ، وقيل : قولان ، كأسير إذا أسلم قبل الاسترقاق ، ففي قول : يتعين رقه ، وفي قول : للإمام أن يرقه وأن يمن عليه ، أو يفاديه ، وقيل : لا يجوز استرقاقهم ، بل يتركون ولا يتعرض لهم ، ويجوز سبي نسائهم وصبيانهم على الأصح ، وقيل : لا يجوز ، وقيل : يجوز سبي نسائهم دون صبيانهم ؛ لأنهم أبعاضهم ، وأجرى بعضهم الخلاف في اغتنام الأموال ، قال الإمام : من منع اغتنام أموال السوقة ، فقد قرب من خرق الإجماع ، ولو ترهبت امرأة ففي جواز سبيها وجهان بناء على قتل الراهب .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا يجوز قتل رسول الكفار .

                                                                                                                                                                        التاسعة : يجوز للإمام محاصرة الكفار في بلادهم ، والحصون والقلاع ، وتشديد الأمر عليهم بالمنع من الدخول والخروج ، وإن كان فيهم النساء والصبيان ، واحتمل أن يصيبهم ، ويجوز التحريق بإضرام النار ورمي النفط إليهم ، والتغريق بإرسال الماء ، ويبيتهم وهم غافلون ، ولو تترسوا بالنساء والصبيان ، نظر إن دعت ضرورة إلى الرمي والضرب ، بأن كان ذلك في حال التحام القتال ولو تركوا لغلبوا المسلمين ، جاز الرمي والضرب ، وإن لم تكن ضرورة ، بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم ، فطريقان . [ ص: 245 ] أصحهما : على قولين ، أحدهما : يجوز رميهم ، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم ، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد . والثاني : المنع ، وهذا أصح عند القفال . ومال إلى ترجيح الأول مائلون .

                                                                                                                                                                        والطريق الثاني : القطع بالجواز ورد المنع إلى الكراهة ، وقيل : في الكراهة على هذا قولان ، ولو تترسوا بهم في القلعة ، فقيل : هذه الصورة أولى بالجواز ، لئلا يتخذ ذلك حيلة إلى استبقاء القلاع لهم ، وفي ذلك فساد عظيم ، وقيل : قولان ، وإن عجزنا عن القلعة إلا به .

                                                                                                                                                                        قلت : الراجح في الصورتين ، الجواز . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو كان في البلدة أو القلعة مسلم ، أو أسير ، أو تاجر ، أو مستأمن ، أو طائفة من هؤلاء ، فهل يجوز قصد أهلها بالنار والمنجنيق وما في معناهما ؟ فيه طرق ، المذهب : أنه إن لم يكن ضرورة ، كره ولا يحرم على الأظهر لئلا يعطلوا الجهاد بحبس مسلم فيهم ، وإن كانت ضرورة ، كخوف ضررهم ، أو لم يحصل فتح القلعة إلا به ، جاز قطعا ، والطريق الثاني : لا اعتبار بالضرورة ، بل إن كان ما يرمى به يهلك المسلم ، لم يجز ، وإلا فقولان ، والثالث وبه أجاب صاحب " الشامل " : إن كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين ، لم يجز رميهم ، وإن كان أقل ، جاز ؛ لأن الغالب أنه لا يصيب المسلمين ، والمذهب : الجواز ، وإن علم أنه يصيب مسلما وهو نصه في " المختصر " لأن حرمة من معنا أعظم حرمة ممن في أيديهم ، فإن هلك منهم هالك ، فقد رزق الشهادة ، قاله أبو إسحاق ، ولو رمى بشيء منها إلى القلعة ، أو [ ص: 246 ] البلدة ، فقتل مسلما ، فإن لم يعلم أن فيها مسلما ، لم يجب إلا الكفارة ، وإن علم ، وجبت الدية والكفارة ، حكاه الروياني .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو تترس الكفار بمسلمين من الأسارى وغيرهم ، نظر إن لم تدع ضرورة إلى رميهم واحتمل الحال الإعراض عنهم ، لم يجز رميهم ، فإن رمى رام ، فقتل مسلما قال البغوي : هو كما لو قتل مسلما في دار الحرب ، إن علمه مسلما لزمه القصاص ، وإن ظنه كافرا فلا قصاص وتجب الكفارة ، وفي الدية قولان ، وإن دعت ضرورة إلى رميهم ، بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا ، وكثرت نكايتهم فوجهان ، أحدهما : لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم ؛ لأن غايته أن نخاف على أنفسنا ، ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الإكراه ، والثاني وهو الصحيح المنصوص ، وبه قطع العراقيون : جواز الرمي على قصد قتال المشركين ، ويتوقى المسلمين بحسب الإمكان ؛ لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام ، ولا يبعد احتمال طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة للأمور الكليات ، فإن جوزنا الرمي ، فرمى وقتل مسلما ، فلا قصاص ، فتجب الكفارة ، وفي الدية طرق ، أصحها وظاهر النص ، وبه قال المزني وابن سلمة : إن علم أن المرمي مسلم ، وجبت ، وإلا فلا . والثاني قاله أبو إسحاق : إن قصده بعينه ، وجبت ، سواء علمه مسلما أم لا ، وإلا فلا ، والثالث : قولان مطلقا ، والرابع قاله ابن الوكيل : إن علم أن هناك مسلما ، وجبت ، وإلا فقولان ، وإن لم نجوز الرمي ، فرمى وقتل ، ففي وجوب القصاص طريقان ، أحدهما قولان ، كالمكره ، والثاني : يجب قطعا ، كالمضطر إذا قتل رجلا ليأكله ، بخلاف المكره ، فإنه ملجأ ، ولأن هناك من يحال عليه وهو المكره .

                                                                                                                                                                        [ ص: 247 ] ولو تترس الكفار بذمي أو مستأمن أو عبد ، فالحكم في جواز الرمي والدية والكفارة كما ذكرنا ، لكن حيث تجب دية ، يجب في العبد قيمته ، وفي " التهذيب " أنه لو تترس كافر بترس مسلم ، أو ركب فرسه ، فرماه مسلم فأتلفه ، فإن كان في غير التحام ، أو في التحام وأمكنه أن يتوقى الترس والفرس ، ضمن ، وإن لم يمكنه في الالتحام الدفع إلا بإصابته ، فإن جعلناه كالمكره ، لم يضمن ؛ لأن المكره في المال يكون طريقا في الضمان ، وهنا لا ضمان على الحربي حتى يجعل المسلم طريقا ، وإن جعلناه مختارا ، لزمه الضمان .

                                                                                                                                                                        العاشرة : في حكم الهزيمة ، إذا التقى الصفان ، قد أطلق الغزالي أنه إن كان في انهزامه كسر المسلمين ، لم يجز الانهزام بحال ، وإلا ففيه التفصيل الآتي - إن شاء الله تعالى - . ولم يتعرض الجمهور لذلك بل قالوا : إذا التقى الصفان ، فله حالان ، أحدهما : أن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بل كانوا مثلي المسلمين أو أقل ، فتحرم الهزيمة والانصراف إلا متحرفا لقتال ، أو متحيزا إلى فئة ، فالمتحرف : من ينصرف ليكمن في موضع ، ويهجم ، أو يكون في مضيق ، فينصرف ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال ، أو يرى المصلحة في التحول إلى مضيق ، أو يتحول من مقابلة الشمس والريح إلى موضع يسهل عليه القتال . والمتحيز إلى فئة : من ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة يستنجد بها في القتال ، وسواء كانت تلك الطائفة قليلة أو كثيرة ، قريبة أو بعيدة ، وقيل : يشترط قربها ، والصحيح الأول ، وعلى هذا هل يلزمه تحقيق عزمه بالقتال مع الفئة المتحيز إليها ؟ وجهان ، أصحهما : لا ؛ لأن العزم مرخص ، فلا حجر عليه بعد ذلك ، والجهاد لا يجب قضاؤه ، وفي كلام الإمام ، أن التحيز إنما يجوز إذا استشعر المتحيز [ ص: 248 ] عجزا محوجا إلى الاستنجاد لضعف المسلمين ، ولعل ما حكيناه عن الغزالي أخذه من هذا ، ولم يشترط الأصحاب ما ذكراه وكأنهم رأوا ترك القتال والانهزام في الحال مجبورا بعزمه ، وكل واحد من التحرف والتحيز يتضمن العزم على العود إلى القتال ، والرخصة منوطة بعزمه ، ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزم ، هذا الذي ذكرناه من تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أو متحيز هو في حال القدرة ، أما من عجز بمرض ونحوه ، أو لم يبق معه سلاح ، فله الانصراف بكل حال ، ويستحب أن يولي متحرفا أو متحيزا ، فإن أمكنه الرمي بالأحجار ، فهل تقوم مقام السلاح ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : تقوم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو مات فرسه وهو لا يقدر على القتال راجلا ، فله الانصراف ، ومن غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل ، هل له الانصراف ؟ وجهان ، الصحيح : المنع . ثم المتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الجيش فيما يغنمونه بعد مفارقته ، ولا يبطل حقه مما غنموه قبل مفارقته ، هكذا نص عليه ، وبمثله أجاب في المتحرف ، ومنهم من أطلق بأن المتحرف يشارك ، ولعله فيمن لم يبعد ، ولم يغب ، والنص فيما إذا تحرف ، ثم انقطع عن القوم قبل أن يغنموا ، وهل يشارك المتحيز إلى فئة قريبة فيما غنموه بعد مفارقته ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، لبقاء نصرته والاستنجاد به ، فهو كالسرية القريبة تشارك الجيش فيما غنمه .

                                                                                                                                                                        الحالة الثانية : إذا زاد عدد الكفار على مثلي المسلمين ، جاز الانهزام ، وهل يجوز انهزام مائة من أبطالنا من مائتين ، وواحد من ضعفاء الكفار ؟ وجهان ، أصحهما : لا ؛ لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا ، وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف . والثاني : نعم ؛ لأن اعتبار [ ص: 249 ] الأوصاف يعسر ، فتعلق الحكم بالعدد ، ويجري الوجهان في عكسه ، وهو فرار مائة من ضعفائنا من مائة وتسعة وتسعين من ضعفائهم ، فإن اعتبرنا العدد ، لم يجز ، وإن اعتبرنا المعنى ، جاز ، وإذا جاز الفرار ، نظر إن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا ، استحب الثبات ، وإن غلب على ظنهم الهلاك ، ففي وجوب الفرار وجهان ، وقال الإمام : إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية ، وجب الفرار قطعا ، وإن كان فيه نكاية فوجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي قاله الإمام هو الحق ، وأصح الوجهين ، أنه لا يجب ، لكن يستحب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لقي مسلم مشركين ، إن طلباه ، فله الفرار ، وإن طلبهما ولم يطلباه ، فهل له أن يولي بعد ذلك ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ؛ لأن فرض الجهاد والثبات إنما هو في الجماعة ، ولو ولى النساء ، لم يأثمن ، فلسن من أهل فرض الجهاد ، نص عليه ، كما لا إثم على صبي ومغلوب على عقله إذا وليا ، ويأثم السكران . ولو قصد الكفار بلدا ، فتحصن أهله إلى أن يجدوا قوة ومددا ، لم يأثموا ، إنما الإثم على من ولى بعد اللقاء .

                                                                                                                                                                        قلت : قال صاحبا " الحاوي " و " البحر " : تجوز الهزيمة من أكثر من المثلين ، وإن كان المسلمون فرسانا والكفار رجالة ، وتحرم الهزيمة من المثلين وإن كان المسلمون رجالة والكفار فرسانا ، وهذا الذي قالاه فيه نظر ، ويمكن تخريجه على الوجهين السابقين في أن الاعتبار بالمعنى أم بالعدد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 250 ] فصل

                                                                                                                                                                        المبارزة جائزة ، ولو خرج كافر وطلبها ، استحب الخروج إليه ، وابتداء المبارزة لا مستحب ولا مكروه ، وقال ابن أبي هريرة : تكره ، وأطلق ابن كج استحبابها ، والصحيح الأول ، وإنما تحسن المبارزة ممن جرب نفسه وعرف قوته وجرأته ، فأما الضعيف الذي لا يثق بنفسه ، فتكره له المبارزة ابتداء وإجابة ، نص عليه ، وفيه وجه : أنه يحرم ، والصحيح الأول ، ويستحب أن لا يبارز إلا بإذن الأمير ، فلو بارز بغير إذنه ، جاز على الصحيح ، وبه قطع الجمهور ؛ لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز ، والثاني : يحرم ؛ لأن للإمام نظرا في تعيين الأبطال .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        نقل رءوس الكفار إلى بلاد الإسلام ، فيه وجهان ، أحدهما : لا يكره للإرعاب ، والثاني وهو الصحيح ، وبه قطع العراقيون والروياني : يكره ، ولم يتعرض الجمهور للفرق بين كافر فيه نكاية وغيره ، وقال صاحب " الحاوي " : لا يكره ، إن كان فيه نكاية ، بل يستحب .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية