الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 370 ] [ ص: 371 ] 2 ( الباب السادس )

                                                                                                                3 ( في الحيض )

                                                                                                                ولنقدم الكلام على لفظه ، وحقيقته ، وسببه ، ثم الكلام على فقهه . أما لفظه ، فحكى صاحب التنبيهات فيه احتمالين :

                                                                                                                الأول : أنه مأخوذ من قول العرب : حاضت السمرة إذا خرج منها ماء أحمر ، فشبه دم الحيض به .

                                                                                                                وثانيهما : أن الحيض ، والمحيض مجتمع الدم ، ومنه الحوض لاجتماع الماء فيه ، وهو مشكل ; لأن الحوض من ذوات الواو ، والحيض من ذوات الياء ، فهما متباينان ، ولذلك جعلهما صاحب الصحاح في بابين ، وتقول : حاضت المرأة تحيض حيضا ، ومحيضا ، فهي حائض ، وحائضة ، وقال بعض أئمة اللغة : إن أردت الحالة المستمرة ، والصفة المعتادة قلت حائض ، وطاهر ، وطالق ، وإن أردت الحالة الحاضرة قلت حائضة ، وطاهرة ، وطالقة ، والحيضة المرة الواحدة ولو دفعة بفتح الحاء ، ولكن اصطلاح المذهب على أنها المدة التي تعتد بها من زمان الحيض في العدد ، والاستبراء ، والحيضة - بكسر الحاء - الاسم ، والخرقة التي تستثفر بها ، وكذلك المحيضة .

                                                                                                                والحيض ، والطهر يسمى كل واحد منهما قرءا ، وقرءا بضم القاف ، وفتحها .

                                                                                                                [ ص: 372 ] ومن العلماء من يفرق بينهما على المذهبين قيل : الإطلاق على سبيل الاشتراك ، وقيل : متواطئ موضوع للقدر المشترك ، واختلف في ذلك المشترك ، فقيل : اجتماع الدم في الجسد زمان الطهر ، أو في الرحم زمان الحيض ، فإن أصل القرء الجمع ، ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته ، ومنه القراءة للكتب ، فإنه جمع حرف إلى حرف ، وكلمة إلى كلمة ، وقيل : المشترك الزمان لقولهم : جاء فلان لقرئه ؛ أي : لزمانه ، ولما كان لكل واحد منهما زمان يخصه قيل له قرء ، وتقول العرب : استحيضت المرأة إذا استمر دمها بعد أيامه ، فهي مستحاضة ، وتحيضت ؛ أي : قعدت أيام حيضها ، وفي الحديث : ( تحيضي في علم الله ستا ، أو سبعا ) .

                                                                                                                وأما حقيقته ، فهو غسالة الجسد ، وفضلات الأغذية التي لا تصلح للبقاء ، ولذلك عظم نتنه ، وقبح لونه ، واشتد لذعه ، وامتاز على دم الجسد ، وكذلك على الذي منه دم الاستحاضة ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : ذلك عرق ، وليس بحيضة . أي عرق انشق ، فخرج منه دم الجسد ، وليس بغسالة ، فيجتمع ذلك من الوقت إلى الوقت ، ثم يندفع في عروق الدم فيخرج من فوهاتها إلى تجويف الرحم فيجتمع هناك ، ثم يندفع في عنق الرحم الذي هو محل الوطء ، وجعل الله سبحانه وتعالى ذلك علما على براءة الأرحام ، وحفظا للأنساب .

                                                                                                                وأما سببه ، فقيل : لما أعانت حواء آدم على الأكل من الشجرة أرسل الله تعالى عليها هذا الدم عقوبة لها يبعدها عن طاعة ربها حالة ملابسته لها ، وأقر ذلك في بناتها ، وقيل : أول ما امتحن به بنو إسرائيل .

                                                                                                                وأما فقهه ، فنمهد له بالنظر في أحكام الحيض ، والطهر ، وأقسام الحيض ، ودم الاستحاضة ، ودم النفاس ، فهذه أربعة فصول .

                                                                                                                [ ص: 373 ] الفصل الأول

                                                                                                                في أحكام الحيض ، والطهر

                                                                                                                وأقل الحيض غير محدود بل الصفرة والكدرة حيض سواء كانتا في أوله ، أو في آخره خلافا لمكحول ؛ لما في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة ، فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ، والدرجة بكسر الدال ، وفتح الراء جمع درجة بضم الدال ، وسكون الراء : الخرقة ، والكرسف القطن ، وهو أليق بالرحم اللينة وتجفيفه لما يجده وصفائه .

                                                                                                                والدفعة من الدم حيض خلافا لأبي حنيفة والشافعي في أنهما لا يعدان حيضا إلا ما كان يعتد به في العدة والاستبراء ، فحدده أبو حنيفة ، وابن مسلمة بثلاثة أيام ، والشافعي بيوم وليلة .

                                                                                                                وفي التفريع : أقل الحيض خمسة أيام في العدد ، والاستبراء لعبد الملك . قال المازري : قال بعض أصحابنا : أقله ثلاثة أيام في العدة والاستبراء ، وفي الكتاب في كتاب الاستبراء إذا رأت الدم يوما ، أو يومين ، فتسأل عنه النساء ، فإن قلن يقع به الاستبراء استبرأت به . قال صاحب الطراز قال : محمد بن خويز منداد : تفرقة مالك بين العدد ، والصلاة استحسان ، والقياس عدم التفرقة ، فتكون الدفعة تحرم بها الصلاة ، وتنقضي بها العدة ، فتنقضي العدة بعشرة أيام ، وبعض يوم .

                                                                                                                والمعروف من المذهب التفرقة لقوله عليه السلام : ( دم الحيض أسود يعرف ، فإذا رأيت ذلك ، فاتركي الصلاة ) وقوله تعالى : ( قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) واتفق الجميع على أن أول النفاس غير محدود ، فكذلك [ ص: 374 ] الحيض ، وأما العدد ، فالمقصود منها البراءة ، وذلك لا تكفي فيه الدفعة ; لأن الشرع قد أكد ذلك حتى لم يكتف بحيضة تامة ، فضلا عن الدفعة .

                                                                                                                وأما أكثره ، فخمسة عشر يوما على المنصوص ، واستقرأ أبو الطاهر من القول بإضافة الاستظهار إلى الخمسة عشر أن أكثره ثمانية عشر .

                                                                                                                وأكثر الطهر لا حد له إجماعا ، وأقله فيه خمسة أقوال : يرجع فيه إلى العادة ، وهو مذهب الكتاب ، وخمسة عشر يوما عند محمد بن مسلمة ، وعشرة عند ابن حبيب ، وثمانية لسحنون ، وابن أبي زيد في الرسالة قال : من ثمانية لعشرة ، وخمسة لعبد الملك .

                                                                                                                في الجلاب : والمستند اختلاف العوائد عند قائل الخمسة عشر ، ولقوله عليه السلام : ( تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي ) والشطر النصف فيكون الطهر نصف شهر ، ولأن الله تبارك وتعالى جعل العدة ثلاثة أشهر بدل الأقراء ، ويستحيل أن يكون بدلا من أكثرها ، أو أقلها ، وأكثر الطهر ، وأقل الحيض ، فتعين أكثر الحيض ، وأقل الطهر .

                                                                                                                وهاهنا مناسبات ، وهي : أن العشرة نهاية المرتبة الأولى في العدد ، وما فوقها فمضاف إليها ، فكانت نهاية أقل الطهر .

                                                                                                                وأما الثمانية ، فلأن العشرة نهاية ، والكلام في أقل الطهر فيناسب أقل من النهاية فينقص منها أقل الجمع ، وهو اثنان .

                                                                                                                تنبيه : يروى هذا الحديث : ( تمكث إحداكن نصف عمرها ، وشطر عمرها لا تصلي ) ، وعليه أسئلة :

                                                                                                                أحدها : أنه ليس في الصحيح ، وثانيها : أن أيام الصبا تدخل فيه فيسقط به الاستدلال ، وثالثها : أنه لو كانت تحيض عشرة ، وتطهر عشرة استقام ، فلا دلالة فيه على الخمسة عشر ، ورابعها : أن الحديث لا عموم فيه ، والدعوى عامة ، فلا يفيدها .

                                                                                                                [ ص: 375 ] فروع أربعة :

                                                                                                                الأول : الحيض والنفاس قال في التلقين : يمنعان أحد عشر حكما : وجوب الصلاة ، وصحة فعلها ، وفعل الصوم دون وجوبه ، والجماع في الفرج ، وما دونه ، والعدة ، والطلاق ، والطواف ، ومس المصحف ، ودخول المسجد ، والاعتكاف ، وفي القراءة روايتان . أما الأول والثاني فبالإجماع .

                                                                                                                فرع : قال صاحب الطراز : لو بقي من النهار ركعة ، فابتدأت تصلي العصر ، فلما فرغت الركعة غابت الشمس ، وحاضت . قال سحنون : تقضيها لأنها لم تحض إلا بعد خروج وقتها كما لو لم تصلها ، وقال أصبغ : لا تقضيها ; لأن ما توقعه بعد الغروب لو كان زمن أداء لكانت من إذا حاضت فيه ولم تصل العصر يسقط عنها ، وأما الحديث فمعناه : فقد أدرك وجوبها لأنه قد لا يصليها ، فلا يكون أداء ، وخبر الشرع يجب أن يكون صادقا .

                                                                                                                وأما الثالث : وهو وجوب الصوم . قال المازري : أنكره على القاضي جماعة من العلماء ; لأن حقيقة الواجب ما يعاقب تاركه ، والحائض لا تعاقب على الصوم ، والشيء لا يوجد بدون حقيقته وحده ، فلا يكون الصوم واجبا ، وهو محرم ، ووافق القاضي على ذلك أبو الطاهر ، وجماعة ، شبهتهم أمران :

                                                                                                                أحدهما أن الحائض تنوي القضاء إجماعا ، والقضاء فرع وجوب الأداء .

                                                                                                                الثاني : لو كان الصوم لا يجب أداؤه لكان وجوبه منشأ في زمن القضاء ، ولو كان كذلك لما احتاجت إلى إضافته لرمضان السابق .

                                                                                                                وجواب الأول : أن القضاء فرع تحقق سبب وجوب الأداء لا الأداء ، والسبب متحقق في حقها ، وهو رؤية الهلال .

                                                                                                                [ ص: 376 ] وجواب الثاني : أن الحاجة لإضافته لما سبق لتعين نسبته إليه ، فإن الوجوب يثبت حالة الطهر مضافا لذلك السبب ، ومقصود النية تمييز العبادات عن العادات ، أو تمييز مراتب العبادات ، ولا تمييز لهذا الصوم إلا بسببه ، فوجبت إضافته إليه كما تضاف الصلوات إلى أسبابها .

                                                                                                                وأما الوطء ، فلقوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) فحرم ، ونبه على سبب المنع ، وهو الأذى ، وهذا الظاهر يقتضي اعتزالهن على الإطلاق ، وقد قال به بعض العلماء ، لا سيما إذا قلنا في المحيض اسم زمان الحيض ، فإن هذا البناء يصلح للمصدر ، والزمان ، والمكان ، وظاهر التعليل يقتضي اقتصار تحريم المباشرة للفرج فقط لا سيما إن قلنا إن المحيض اسم مكان الحيض ، وهو قول أصبغ ، وابن حبيب ، ولولا السنة لكان النظر معهما ; لأن النصوص تتسع عللها .

                                                                                                                والمذهب المشهور جمع بين الكتاب والسنة ، ففي الموطأ والصحيحين عن عائشة رضي الله عنها كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - فتأتزر بإزار ، ثم يباشرها ، وفي أبي داود عن ميمونة زوج النبي عليه السلام كان - صلى الله عليه وسلم - يباشر المرأة من نسائه ، وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين ، أو الركبتين .

                                                                                                                فائدتان :

                                                                                                                الأولى : سبب سؤالهم له حتى نزل قوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض ) فقيل : كانوا يعتزلون مواضع الحيض كاليهود ، فسألوا عن ذلك ، فأخبرهم الله تعالى أن الحرام الجماع بقوله تعالى : ( في المحيض ) يدل على ذلك في الآية أمران : أحدهما قوله تعالى : ( فإذا تطهرن فأتوهن ) والمراد بالإتيان الوطء ، فدل ذلك على أن الممنوع منه هو الوطء ، وأنه هو المغيا بحتى ليلتئم السياق ، وثانيهما : أنا نحمل المحيض على اسم مكان الحيض ، وقيل : سألوا لأنهم يجتنبون [ ص: 377 ] الحيض في القبل ، ويأتونهن في الدبر ، فأمرهم الله تعالى بالاعتزال في الموضعين ، وأباح بعد الطهر القبل فقط بقوله : ( من حيث أمركم الله ) .

                                                                                                                الثانية : ليس على واطئ الحائض كفارة لأنها ليست من لوازم التحريم بدليل الغصب ، والغيبة ، والنميمة ، وغير ذلك ، فلا بد حينئذ من دليل يقررها ، ولم يوجد فيقرر .

                                                                                                                وقال الشافعي ، وابن حنبل ، وجماعة : يكفر ، وأوجب الحسن كفارة رمضان ، وأحمد يخيره بين دينار ، ونصف دينار ، وقتادة يوجب بإصابته في الدم دينارين ، وبعد انقطاعه نصف دينار ، وابن عباس يوجب إن أصابها أول الدم دينارا ، وفي آخره نصف دينار ، ولعل هذه الأمور منهم استحسان لدفع السيئة بالحسنة .

                                                                                                                فرع : في الجواهر : يحرم وطؤها بعد انقطاع الدم ، وقبل الغسل خلافا لأبي حنيفة في إباحته ذلك إذا انقضى أكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده ، أو وجد معنى ينافي حكم الحيض مثل حضور آخر وقت الصلاة ; لأن الوجوب عنده متعلق بآخر الوقت ، أو يتيمم للصلاة ، ووافقه ابن بكير من أصحابنا في الإباحة .

                                                                                                                لنا : قوله تعالى : ( حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن ) فاشترط انقطاع الدم ، والغسل ، ويدل على أن المراد الغسل قوله تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) مدحا وحثا على التطهير ، وذلك يدل على أنه مكتسب ، وانقطاع الدم ليس بمكتسب .

                                                                                                                وأما قول أبي حنيفة : إن علة المنع الدم فيزول بزوال علته فيشكل عليه بانقطاعه قبل العشرة الأيام ، فلو تيممت على مذهبنا ، ففي جواز وطئها بعد أيام الدم قولان مبنيان على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا .

                                                                                                                [ ص: 378 ] فرع : في الكتاب : يجبر المسلم زوجته الذمية على غسل الحيض دون الجنابة لأنه لا يطؤها حتى تغسل ، وعن مالك في غير الكتاب لا يجبرها ; لأن الغسل الذي هو شرط هو الغسل الشرعي ، وهو متعذر منها لأنها لا تنوي الوجوب ، قيل : هو ينوي عنها ، فقيل : كيف ينوي الإنسان عن غيره ؟ قيل : كغسل الميت ؛ ينوي غير المغسول .

                                                                                                                أجيب : بأن غسل الميت فعل الناوي ، فلذلك صحت نيته ، فإن نية الإنسان إنما تخصص فعله دون فعل غسل غيره ، وغسل الذمية ليس فعل الزوج ، فنيته له كنيته لصلاة غيره ، وأما غسل الميت ففعل الناوي ، فظهر الفرق ، وعلم أن الممكن من الذمية ليس هو شرط الوطء ، وشرط الوطء ليس ممكنا منها حالة الكفر ، وفي هذا المقام اضطربت آراء الأصحاب ، وتزلزلت عليهم القواعد ، فرأوا أن أحد الإشكالين لازم : إما إباحة الوطء بدون شرطه ، أو اعتقاد ما ليس بشرط شرطا ، وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن تقول :

                                                                                                                قاعدة : خطاب الشرع قسمان : خطاب وضع لا يفتقر إلى علم المكلف ، ولا قدرته ، ولا إرادته ، ولا نيته ، وهو الخطاب بالأسباب ، والشروط ، والموانع ، وخطاب تكليف يفتقر إلى ذلك ، وقد تقدم بسطه في مقدمة الكتاب ، والغسل من الحيض فيه لله تعالى خطابان : خطاب وضع من جهة أنه شرط ، وخطاب تكليف من جهة أنه عبادة ، والخطاب الثاني هو المحتاج إلى النية ، فعدم النية يقدح فيه دون الأول فيبطل كون هذا الغسل عبادة ، ويبقى كونه شرطا ، ولا يلزم إباحة المسلمة إذا اغتسلت من غير نية لأنها مكلفة بخلاف الذمية ، وكان الأصل إباحتها ، خولف الدليل ثمت فيبقى ها هنا على مقتضى القاعدة .

                                                                                                                وأما مس المصحف ، فلقوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) ، ولقوله عليه السلام لعمرو بن حزم : لا يمس المصحف إلا طاهر .

                                                                                                                [ ص: 379 ] وأما المسجد ، فلقوله عليه السلام : لا يحل المسجد لحائض ، ولا جنب . قال المازري : وأجازه ابن مسلمة ، وقال : هما طاهران ، وإنما يخشى من دم الحيض .

                                                                                                                وأما جواز القراءة ، فلما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ القرآن ، وهي حائض ، والظاهر اطلاعه عليه السلام ، وأما المنع ، فقياسا على الجنب ، والفرق للأول من وجهين : أن الجنابة مكتسبة ، وزمانها لا يطول بخلاف الحيض .

                                                                                                                فروع :

                                                                                                                الأول : قال صاحب النكت : إذا وقع دم الحيض ، ولم تغتسل ، فهي كالجنب في المنع من القراءة ، والوضوء للنوع لأنها ملكت أمرها .

                                                                                                                الثاني : قال ابن القاسم في الكتاب : إذا رأت الدم قبل أيام حيضتها قبل وقت العادة إن كان حيضها من الأمام ما يمنع الإصابة جعل حيضا ، وإلا كان حيضة واحدة . قال صاحب الطراز : وفي القدر المانع خمسة أقوال : أحدها ما في الكتاب من الإحالة على العرف ، والأربعة المتقدمة .

                                                                                                                الثالث : إذا انقطعت الحيضة ، فحاضت يوما ، وطهرت يوما قال في الكتاب : تلغي أيام النقاء خلافا لأبي ح ، فإذا كمل من أيام الدم خمسة عشر يوما اغتسلت وصلت قال أيضا في الكتاب : تلفق من أيام الدم أيامها ، وتستطهر بثلاث ، والأيام التي تلغى هي فيها طاهر تصلي ، ويأتيها زوجها ، ثم هي مستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وتغتسل كل يوم إذا انقطع الدم إذ لعله لا يرجع إليها ، ولا تكون حائضا بعد ذلك إلا أن تتيقن دم الحيض . قال صاحب الطراز : وأما قوله تستطهر يرد إذا كانت دون الخمسة عشر ، وفيها خمسة أقوال التي تأتي في المعتادة إذا جاوز دمها عادتها ، وأما قوله : تكون مستحاضة ، فخالف فيه ابن مسلمة على تفصيل ، فإن أقل الطهر عنده خمسة عشر يوما ، فإذا مضى [ ص: 380 ] من الأيام أكثر الحيض ، وأقل الطهر كان الآتي بعد ذلك حيضا تاما ، وتلفق أيام الطهر كما يلفق الحيض ، فإذا كان الحيض يوما بيوم لفقت من أيام الدم خمسة عشر يوما ، ولا تكون مستحاضة ، وإن كان الحيض يوما ، والطهر يومين لم تلفق أيام الحيض ، وإلا فقد بقي أقل من أقل الطهر ، فتكون مستحاضة .

                                                                                                                وضابطه : أن أيام الدم إن كانت أكثر من أيام الطهر ، فهي مستحاضة ; لأن المرأة لا تحيض أكثر من زمن طهرها ، وإن كان زمن الطهر أكثر ، أو مساويا ، فهي عنده حائض بعد ذلك في أيام الدم ، وطاهر في أيام الانقطاع ، والمذهب أظهر لأنه إذا يعلم أن الدم الأول والأخير حيضة ، فالأيام المتخللة ليست فاصلة بين حيضين ، فلا يكون طهرا .

                                                                                                                حجة أبي حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه أن حد الطهر غير موجود ها هنا فيلزم انتفاء المحدود ، فلا يكون يوم النقاء طهرا ، فيكون حيضا إذ لا واسطة .

                                                                                                                جوابه من وجهين : أحدهما أن الطهر محدود بحسب العدد لا بحسب العبادة ، وثانيهما : أن أبا حنيفة قد يجوز وطأها في يوم النقاء إذا اغتسلت ، أو تيممت ، وذلك دليل الطهر ، وأما قوله تغتسل كل يوم ، فلما في أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه إذا رأت المستحاضة الطهر ولو ساعة فلتغتسل .

                                                                                                                فرعان مرتبان :

                                                                                                                الأول : قول ابن القاسم في المجموعة والعتبية : إذا رأت الدم في اليوم ، ولو ساعة حسبته من أيام الدم ، وإن اغتسلت في باقيه وصلت .

                                                                                                                الثاني : لو طلقها في إبان النقاء قال التونسي : مخير على رجعتها ، وفي النكت عن جماعة من الشيوخ : لا يخير لأنه زمان يجوز الوطء فيه ، والأول أظهر ؛ لقوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) أي لاستقبالها ، وهذه لا تستقبل عدتها .

                                                                                                                [ ص: 381 ] الرابع : قال في الكتاب : علامة الطهر القصة البيضاء إن كانت تراها ، وإلا فالجفوف . قال ابن القاسم : وهي أن تدخل الخرقة جافة ، فتخرج جافة كذلك .

                                                                                                                والقصة بفتح القاف ، والصاد المهملة من القص بفتح القاف ، وهو الجير ، ومنه نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تقصيص القبور ، وروى ابن القاسم عنه أنها تشبه البول ، وروى أنها تشبه المني ، ولعل ذلك مختلف في النساء . قال ابن يونس : وروى ابن القاسم أنها إن رأت الجفوف ، وعادتها القصة ، فلا تصلي حتى تراها إلا أن يطول ذلك قال : قال أبو محمد : الطول خوف فوات الصلاة ، واختلف هل هو الاختياري ، أو هو الضروري ؟ قال : قال بعض شيوخنا : لا تنتظر زوال القصة بل تغتسل إذا رأتها لأنها علامة الطهر ، قال : قال ابن حبيب : من عادتها الجفوف لا تطهر بالقصة ، ومن عادتها القصة تطهر بالجفوف ; لأن الحيض دم ، ثم صفرة ، ثم ترية ، ثم كدرة ، ثم قصة ، ثم جفاف . قال ابن شاس : قال القاضي أبو محمد : كل واحد منهما علامة مستقلة في حق من اعتادتها فيكون فيها ثلاثة أقوال ، ويدل للمذهب على أن القصة أبلغ أنها متصلة بداخل الرحم ، والخرقة لا تصل إلى ذلك ، وقول عائشة رضي الله عنها : لا تعجلين حتى ترين القصة البيضاء . قال ابن يونس : قال ابن القاسم : لا تطهر حتى ترى الجفاف ، ثم تجري بعد ذلك على ما تقرر من عادتها . قال صاحب الطراز : ويتخرج فيها قولان : أحدهما أنها لا تغتسل حتى ترى القصة لأنها أبلغ ، والثاني : أنها تنتظر عادة أقاربها من أهلها ، فإن رأت عادتهن اتبعتها ، وإلا كانت على حكمين إذا رأت خلاف عادتهن ، فإن اختلف أقاربها ، فأخواتها أقرب ، فإن لم يكن ، فأمها ، وخالاتها أقرب من عماتها .

                                                                                                                فروع ثلاثة :

                                                                                                                الأول : قال عبد الملك : إذا اغتسلت من حيض ، أو نفاس ، ثم رأت قطرة دم ، أو غسالته لم تعد الغسل ، وتتوضأ ، وهذه تسمى الترية - بالتاء المثناة ، وكسر [ ص: 382 ] الراء ، وتشديد الياء التحتية - لقول أم عطية رضي الله عنها : ( كنا لا نعد الصفرة ، والكدرة بعد الطهر شيئا ) وفي الكتاب عن ابن شهاب : لا تصلي ما دامت ترى الترية شيئا من حيض أو حمل لأنه دم من الرحم ، وقياسا على ما إذا تمادى يوما ، ويمكن حمل الحديث على أنها لا تعدهما طهرا .

                                                                                                                الثاني : قال صاحب الطراز : إن خرجت الخرقة بالدم ، وحشت غيرها ، ثم أخرجتها آخر النهار جافة كانت طاهرا من قبل هذا الحشو بخلاف ما إذا رأت في الحشو الثاني القصة ، فإنها تكون طاهرا من حين خروجها لأنها من توابع الدم كالصديد ، ثم عليها اعتبار حال خروجها ، فإن تيقنته ، وإلا عملت بالأحوط .

                                                                                                                الثالث : قال صاحب البيان : قال مالك : ليس على المرأة أن تقوم قبل الفجر لتنظر طهرها ، وليس ذلك من عمل الناس ، ولم يكن في ذلك الزمان مصابيح ، قال : والقياس ذلك لكن العمل أسقطه ، فتعتبره عند إرادة النوم ، فإن استيقظت بعد الفجر ، وهي طاهر ، وحزرت تقدمه من الليل عملت على ما قامت عليه ، ولا تقضي الصلاة حتى تتيقن الطهر ، ويجب عليها أيضا أن تنظر عند أوقات الصلاة في أوائلها وجوبا موسعا ، وفي أواخرها وجوبا مضيقا بقدر ما يمكنها أن تغتسل ، وتصلي ، وروى صاحب المنتقى عن عائشة رضي الله عنها إنكار قيام النساء بالمصابيح بالليل فيتفقدن الطهر ، وقالت : لم يكن النساء يفعلن ذلك ، وهي أكثر علما ودينا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية