الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثالث : في المنفصل عن الحيوان .

                                                                                                                وفي الجواهر : ما ليس له مقر كالدمع ، والعرق ، فطاهر لما في البخاري أنه عليه السلام استقبلهم على فرس عري ، وفي الدارقطني أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال عليه السلام : نعم ، وبما أفضلت السباع ، ولأن الحياة علة الطهارة ، فتكون أجزاء الحي طاهرة إلا ما أخرجه الدليل .

                                                                                                                والمسك وفأرته طاهران لأنه‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ عليه السلام كان يتطيب به .

                                                                                                                ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ [ ص: 185 ] ‌‌‌‌‌‌‌‌ والدم المسفوح نجس إجماعا ، وغير المسفوح طاهر على الأصح لقوله تعالى : ( أو دما مسفوحا ) . فمفهومه أن ما ليس بمسفوح مباح الأكل ، فيكون طاهرا .

                                                                                                                والأعيان النجسة كالبول ، والدم ، ونحوهما لا يقضى عليها بنجاسة في باطن الحيوان لصحة صلاة حامل الحيوان الحي كما وردت السنة صلى بصبي ، ولو حمل الإنسان عصفورا ، وصلى به لم أعلم في صحة صلاته خلافا .

                                                                                                                والدماء كلها سواء حتى دم الحيتان طردا للعلة ، وخصصه الشيخ أبو الحسن لعدم اشتراطه ذكاته .

                                                                                                                ولمالك في دم الذباب والقراد قولان كما سبق .

                                                                                                                وعفا مالك - رحمه الله - مرة عن يسير القيح ، والصديد كيسير الدم ، وألحقه مرة بالبول لمزيد استقذاره على الدم .

                                                                                                                وفي الطراز : القيء والقلس طاهران إن خرجا على هيئة طعام .

                                                                                                                والمعدة عندنا طاهرة لعلة الحياة ، والبلغم ، والصفراء ، ومرائر ما يؤكل لحمه .

                                                                                                                والدم ، والسوداء نجسان ، فإذا خالط القيء ، أو القلس أحدهما ، أو عذرة تنقلب إلى جهة المعدة - تنجس .

                                                                                                                والبول والعذرة نجسان من بني آدم ، وقيل إلا ممن لم يأكل الطعام لما في الموطأ : " أن أم قيس أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إليه عليه السلام ، فأجلسه في حجره ، فبال على ثوبه ، فدعا عليه السلام بماء ، فنضحه ، ولم يغسله " وقيل ذلك في الذكر دون الأنثى لأنه تميل النفوس إليه ، فيحمل بخلافها ، والمشهور الأول لأن غذاء الجنين من دم الحيض ، وهو نجس إجماعا ، وأما الحديث ، فالنضح فيه محمول على إتباعه بالماء ، وهو طري ، فذهبت أجزاء الماء بأجزاء النجاسة ، وهو المقصود من التطهير .

                                                                                                                من التبصرة : ولا خلاف في نجاسة ثفلهما ، وإن لم يأكلا .

                                                                                                                في الجواهر : وهما طاهران من كل حيوان مباح الأكل مكروهان من [ ص: 186 ] المكروه نجسان من المحرم لما في مسلم : قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوم من عكل ، أو عرنة ، فاجتووا المدينة ، فأمر لهم عليه السلام بلقاح ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ، وألبانها . الحديث . مع قوله عليه السلام : إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها .

                                                                                                                والمراد بالجعل المشروعية ، فدل ذلك على طهارتها ، وإلا لما أمرهم بذلك ، ولأن غذاء المباح طاهر ، وأمعاءه طاهرة ، وإلا لما كانت مباحة .

                                                                                                                وتغير الطاهر في الطاهر لا ينجسه كالمتغير في الآنية ، وأما المحرم ، فتختلط رطوبات الأمعاء ، وهي محرمة نجسة ، فينجس الطعام ، وقد ظهر بذلك المكروه ، وقيل هما نجسان من الجميع طردا لعلة الاستقذار ، وفرق للمشهور بأن الاستقذار في البول والعذرة أتم منه في مأكول اللحم ، والقاصر عن محل الإجماع لا يلحق به ، فلا ينجس أرواث المأكول ، وهو المطلوب .

                                                                                                                والمذي ، وكل رطوبة أو بلل يخرج من السبيلين ، فهو نجس ، ومنه المني خلافا ش إما لأن أصله دم ، أو لمروره في مجرى البول ، ويتخرج على ذلك طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوان ، وقد ورد على الأول : أن الفضلات في باطن الحيوان لا يقضى عليها بالنجاسة كما تقدم ، وليس أصله نجسا ، فينبغي أن يقال : علة التنجيس الاستقذار بشرط الانفصال ، وقد حصلت العلة بشرطها ، فيتعين التنجيس لأنا نتكلم بعد الانفصال .

                                                                                                                ويحقق ذلك ما في مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام : كان يغسل المني ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب ، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ، ومنه أن رجلا نزل ضيفا بعائشة رضي الله عنها ، فأصبح يغسل ثوبه ، فقالت له إنما كان [ ص: 187 ] يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه ، وإن لم تر نضحت حوله لقد رأيتني أفركه من ثوبه عليه السلام ، فركا ، فيصلي .

                                                                                                                والألبان طاهرة من مأكول اللحم ، وكذلك لبن بنات آدم لأن تحريمهن لحرمتهن ، ولأن الرضاع جائز بعد انقضاء زمن الضرورة إليه ، فلو لم يكن مباحا لمنع .

                                                                                                                ولبن الخنزير نجس ، وما عدا ذلك ، فمختلف فيه ، فقيل : طاهر قياسا على لبن بنات آدم ، ولبعد الاستحالة وضعف الاستقذار ، وقيل : تابعة للحوم لأنها فضلاتها ، وقيل : مكروهة من المحرم الأكل .

                                                                                                                والبيض طاهر مطلقا لأنه من الطير ، وهو طاهر . الرابع : فيما يلابسه ، وفيه فروع ثمانية :

                                                                                                                الأول : في الجواهر : ما غذاؤه النجاسة ، أو غالب غذائه ، فروثه نجس لكون المنفصل أجزاء المتناول ، وقيل : طاهر لبعد الاستحالة .

                                                                                                                الثاني : قال : الأعراق طاهرة ، وإن كان صاحبها يتناول النجاسة ، وكذلك البيض ، واللبن لبعد الاستحالة ، وقيل نجسة نظرا للتولد .

                                                                                                                الثالث : قال : رماد الميتة ، والمتحجر في أواني الخمر نجس لأنه جزء النجاسة ، وقيل طاهر للاستحالة .

                                                                                                                الرابع : قال : الحيوان الذي شأنه أكل النجاسة الملازم لنا كالهر ، والفأرة يقضى بطهارته حتى تتعين نجاسته ، وغير الملازم كالطير إن تعينت نجاسته قضي بها ، فإن لم تتعين ، فمكروه في الماء ليسارته . ويؤكل الطعام لحرمته ، وقيل : ينجس عملا بالغالب ، وقيل : طاهر عملا بالأصل .

                                                                                                                الخامس : مرتب على الرابع ، من التبصرة : إن توضأ بهذا الماء ، وصلى قال في المدونة : يعيد في الوقت مراعاة للخلاف ، وإن كان قد أمره بالتيمم مع وجوده لنجاسته .

                                                                                                                [ ص: 188 ] السادس : في الجواهر : سؤر أهل الذمة وشاربي الخمر كسؤر الجلالة ، ولا يصلى بثيابهم حتى تغسل ، وثوب غير المصلي كذلك إلا ما كان على رأسه ، ويصلي في ثياب المصلين إلا في الوسط الذي يقابل الفرج من غير حائل لقلة معرفة الاستبراء في الناس من غير العلماء .

                                                                                                                السابع : من التبصرة : إذا طبخ اللحم بماء نجس قال مالك : يغسل ، ويؤكل ، وقال أيضا : لا يؤكل ، وهو أحسن لقبول أجزاء اللحم النجاسة ، وكذلك الزيتون يطرح في ماء نجس ، والبيض يطبخ فيه ، أو يوجد بعضه فاسدا نجسا وقد طبخ مع غيره قولان .

                                                                                                                الثامن : منها أيضا : أجرى مالك - رحمه الله - الماء النجس مجرى الميتة لا يسقى لبهيمة ، ولا نبات ، وقال أيضا : يجوز ، وقال ابن مصعب : لا يسقى ما يؤكل لحمه بخلاف الزرع والنخل فعلى القول الأول لا يؤكل الحيوان ، أو النبات الذي شربه حتى تطول مدته ، وتتغير أعراضه ، وفي المدونة : لا بأس أن يعلف النحل العسل النجس ، وفي الترمذي أنه عليه السلام نهى عن أكل لحوم الجلالة ، وألبانها .

                                                                                                                قاعدة تبين ما تقدم ، وهي : أن الله تعالى إنما حكم بالنجاسة في أجسام مخصوصة بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة ، وإلا فالأجسام كلها متماثلة ، واختلافها إنما وقع بالأعراض ، فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهابا كليا ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعا كالدم يصير منيا ، ثم آدميا ، وإن انتقلت تلك الأعراض إلى ما هو أشد استقذارا منها ثبت الحكم فيها بطريق الأولى كالدم يصير قيحا ، أو دم حيض ، أو ميتة .

                                                                                                                وإن انتقلت إلى أعراض أخف منها في الاستقذار ، فهل يقال هذه الصورة قاصرة عن محل الإجماع في العلة ، فيقصر عنها في الحكم ، أو يلاحظ أصل العلة لا كمالها ، فيسوى بمحل الإجماع ؟ هذا موضع النظر بين العلماء في جملة هذه الفروع [ ص: 189 ] المتقدمة ، ولذلك فرق علماؤنا رحمة الله عليهم بين استحالة الخمر إلى الخل قضوا فيه بالطهارة ، وبين استحالة العظام النجسة إلى الرماد لما فيه من بقية الاستقذار ، وعدم الانتفاع بخلاف الأول .

                                                                                                                وبهذا التقرير يظهر بطلان قول القائل : إزالة النجاسة من باب الرخص محتجا بأن سبب تنجيس الماء وغيره ملاقاته للنجاسة ، فما من ماء يصل إلى المحل إلا ويتنجس ، والثاني يتنجس بالأول ، وهلم جرا حتى لو فرض صب الماء من أعلى جبل بإبريق ؛ نجس ما في الإبريق فوق الجبل بالنجاسة الكائنة أسفله بسبب ملاقاة كل جزء لجزء تنجس قبله - بأن تجيب عن ذلك بأن الأعراض المخصوصة المستقذرة التي حكم الشرع لأجلها بالنجاسة منفية بالضرورة فيما بعد عن النجاسة ، فلا يكون نجسا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية