الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 217 ] [ باب اللعان ] ويجب بقذف الزوجة بالزنا أو بنفي الولد إذا كانا من أهل الشهادة وهي ممن يحد قاذفها وطالبته بذلك ، فإن امتنع منه حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحد ، فإذا لاعن وجب عليها اللعان ، وتحبس حتى تلاعن أو تصدقه ، وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة فعليه الحد ، وإن كان من أهل الشهادة وهي ممن لا يحد قاذفها فلا حد عليه ولا لعان ويعزر .

وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ، ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا ، وإن كان القذف بولد يقول : فيما رميتك به من نفي الولد . وإن كان بهما يقول : فيما رميتك به من الزنا ومن نفي الولد . ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا ، وفي نفي الولد تذكره ، فإذا التعنا فرق الحاكم بينهما ، فإذا فرق بينهما كانت تطليقة بائنة ( س ) ، فإن كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ، وإذا قال : حملك ليس مني فلا لعان ( سم ) .

ويصح نفي الولد عقيب الولادة وفي حالة التهنئة وابتياع آلة الولادة فيلاعن وينفيه القاضي ، وبعد ذلك يثبت نسبه ويلاعن ، وإن كان غائبا فعلم فكأنها ولدت حال علمه ، ومن ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني ثبت نسبهما ولاعن ، وإن عكس فنفى الأول واعترف بالثاني ثبت نسبهما وحد .

التالي السابق


باب اللعان

وهو مصدر لاعن يلاعن ملاعنة كقاتل يقاتل مقاتلة ، والملاعنة مفاعلة من اللعن ، ولا يكون هذا الوزن إلا بين اثنين ، إلا ما شذ كراهقت الحلم وطارقت النعل وعاقبت اللص ونحوه ، وهو لفظ عام .

وفي الشرع : هو مختص بملاعنة تجري بين الزوجين بسبب مخصوص بصفة مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى ، وهو شهادات مؤكدات بالأيمان موثقة باللعن والغضب من الله تعالى كما نطق به الكتاب ، وقد كان موجب القذف في الحد في الأجنبية والزوجة بقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ؛ فنسخ في الزوجات إلى اللعان بقوله تعالى : ( والذين يرمون أزواجهم ) الآية ، وسبب ذلك ما روى ابن عباس رضي الله عنه : " أن هلال بن أمية قذف امرأته خولة بشريك بن سحماء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد بن عبادة : الآن يضرب هلال وترد شهادته ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : البينة أو حد في ظهرك ، فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول : البينة أو حد في ظهرك ، فقالهلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل : ( والذين يرمون أزواجهم ) إلى قوله : ( إن كان من الصادقين ) [ ص: 218 ] فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما ، وقال عند ذكر اللعنة والغضب : آمين ، وقال القوم : آمين ، قال : ( ويجب بقذف الزوجة بالزنا ) لما تلونا ( أو بنفي الولد ) لأنه في معناه . قال : ( إذا كانا من أهل الشهادة وهي ممن يحد قاذفها وطالبته بذلك ) لأن الركن فيه الشهادة . قال تعالى : ( ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم ) . والشهادة لا تكون معتبرة إلا إذا صدرت من أهلها ، فوجوب الشهادة عليهما اشتراط كونهما من أهل الشهادة ، ولا بد من أن تكون ممن يحد قاذفها ، لأن اللعان في حقها كحد القذف لما أن اللعان عقوبة ، فإن كان كاذبا التحق به كالحد حتى لا تقبل شهادته بعد اللعان أبدا ، وهو في حقها كحد الزنا لأن الغضب في حقها من الله تعالى عقوبة شديدة يلتحق بها إن كانت كاذبة فقام مقام حد الزنا ، ولهذا لا يثبت اللعان بالشهادة على الشهادة ، ولا بكتاب القاضي ، ولا بشهادة النساء كالحدود ، ولا بد من طلبها لها لأن الحق كما في حد القذف . وشرط اللعان قيام الزوجية بينهما بنكاح صحيح دون الفاسد ، لأن مطلق الزوجية ينصرف إلى الصحيح .

قال : ( فإن امتنع منه حبس حتى يلاعن ) لأنه حد وجب عليه فيحبس فيه لقدرته عليه ( أو يكذب نفسه فيحد ) لأنه إذا أكذب نفسه سقط اللعان ، وإذا سقط اللعان وجب عليه الحد ، لأن القذف لا يخلو عن موجب ، فإذا سقط اللعان صرنا إلى حد القذف ، إذ هو الأصل .

( فإذا لاعن وجب عليها اللعان ) بالنص ، ( وتحبس حتى تلاعن ) لما بينا ، ( أو تصدقه ) فلا حاجة إلى اللعان ، ولا يجب عليها حد الزنا ، لأن من شرطه الأقارير الأربعة عندنا على ما يأتي [ ص: 219 ] بيانه ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله : تحد لأن الزاني يحد عنده بالإقرار مرة واحدة ويبتدئ في اللعان بالزوج لأنه هو المدعي ، ولأنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالزوج ، فلما التعنا فرق بينهما ، فإن التعنت المرأة أولا ثم الزوج أعادت ليكون على الترتيب المشروع ، فإن فرق بينهما قبل الإعادة جاز لأن المقصود تلاعنهما وقد وجد .

قال : ( وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة ) بأن كان عبدا أو محدودا في قذف أو كافرا ( فعليه الحد ) لأن اللعان امتنع لمعنى من جهته ، فيرجع إلى الموجب الأصلي ( وإن كان من أهل الشهادة وهي ممن لا يحد قاذفها ) بأن كانت أمة أو كافرة أو محدودة في قذف أو صبية أو مجنونة أو زانية ( فلا حد عليه ولا لعان ) لأن المانع من جهتها فصار كما إذا صدقته ، ( ويعزر ) لأنه آذاها وألحق الشين بها ولم يجب الحد فيجب التعزير حسما لهذا الباب ، ولو كانا محدودين في قذف حد لأن اللعان امتنع من جهته لأنه يبدأ به وهو ليس من أهل الشهادة ، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : " أربعة لا لعان بينهم وبين نسائهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، وفي رواية : " والمسلم تحته كافرة ، والكافر تحته مسلمة " ، وصورته : إذا كانا كافرين فأسلمت فقذفها قبل عرض الإسلام عليه .

( وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا ، ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا ، وإن كان القذف بولد يقول : فيما رميتك به من نفي الولد ، وإن كان بهما يقول : فيما رميتك به من الزنا ومن نفي الولد ) لأنه المقصود باليمين .

( ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا ، وفي نفي الولد تذكره ) كما تقدم .

[ ص: 220 ] ( فإذا التعنا فرق الحاكم بينهما ) ولا تقع الفرقة قبل الحكم حتى لو مات أحدهما قبل التفريق ورثه الآخر . وقال زفر : تقع الفرقة بينهما بالتلاعن لوقوع الحرمة المؤبدة بينهما بالنص وهو المقصود من الفرقة . ولنا ما روي : " أن النبي عليه الصلاة والسلام لما لاعن بينهما قال الزوج : كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا " . قال الراوي : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها ، فأمضى عليه ذلك فصار سنة المتلاعنين ، ولو وقعت الفرقة بتلاعنهما لم يقع الطلاق ، ولما أمضاه عليه الصلاة والسلام ولبين له بطلان اعتقاده في وقوع الطلاق ، ولأن حرمة الاستمتاع تثبت باللعان ، لأن اللعن والغضب نزل بأحدهما بيقين وأثره بطلان النعمة ، وحل الاستمتاع نعمة والزوجية نعمة ، وحل الاستمتاع أقلهما فيحرم ، وهذه الحرمة جاءت من قبله لأنها بسبب قذفه ، فقد فوت عليها الإمساك بالمعروف فيجب عليه التسريح بالإحسان ، فإذا لم يسرحها وهو قادر عليه كان ظالما لها فينوب القاضي منابه دفعا للظلم .

( فإذا فرق بينهما كانت تطليقة بائنة ) لأنه كفعل الزوج كما في الجب والعنة . وقال أبو يوسف : هو تحريم مؤبد ، وثمرته إذا أكذب نفسه حده القاضي وعاد خاطبا ، وعنده لا لقوله عليه الصلاة والسلام : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " ، ولنا أنه إذا أكذب نفسه لم يصيرا متلاعنين ولا يبقى حكمه ، ولهذا وجب عليه الحد بالإكذاب ، ولأن اللعان شهادة وهي تبطل بتكذيب الشاهد نفسه فلم يبقيا متلاعنين لا حقيقة ولا حكما فلم يتناولهما النص .

[ ص: 221 ] قال : ( فإن كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه ) لأنه عليه الصلاة والسلام نفى ولد امرأة هلال وألحقه بأمه .

وإذا قذف الأعمى امرأته العمياء أو الفاسق امرأته يجب اللعان لأنهما من أهل الشهادة ، ولو كان أحدهما أخرس لا حد ولا لعان لأنه ليس من أهل الشهادة ، ولو خرس أحدهما أو ارتد أو أكذب نفسه أو قذف أحدهما إنسانا فحد للقذف ، أو وطئت حراما بعد اللعان قبل التفريق بطل اللعان ولا حد ولا تفريق ، لأن ما منع الوجوب منع الإمضاء لوجود الشبهة ، ولو وطئت بشبهة فقذفها زوجها لا لعان عليه ولا حد على قاذفها . وعن أبي يوسف أنه رجع وقال : يجب اللعان والحد لأنه وطء يجب فيه المهر ويثبت النسب . وجه الظاهر أنه وطء في غير ملك فأشبه الزنا وصار شبهة في إسقاط الحد عن القاذف .

ولو قذفها ثم وطئت حراما لا لعان بينهما لما بينا ، ولو لم يفرق الحاكم بينهما حتى عزل أو مات فالحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما . وقال محمد : لا يستقبل لأن اللعان قائم مقام الحد فصار كإقامة الحد حقيقة ، وذلك لا يؤثر فيه عزل الحاكم وموته . ولهما أن تمام الإمضاء في التفريق والإنهاء فلا يتناهى قبله فيجب الاستقبال ، ولو طلقها بعد القذف ثلاثا أو بائنا فلا حد ولا لعان ، ولو كان رجعيا لاعن لقيام الزوجية ، ولو تزوجها بعد الطلاق البائن فلا لعان ولا حد بذلك القذف .

ولو قال : أنت طالق ثلاثا يا زانية فعليه الحد دون اللعان لأنه قذف أجنبية ، ولو قال : يا زانية أنت طالق ثلاثا فلا حد ولا لعان ، لأنه طلقها ثلاثا بعد وجوب اللعان فسقط بالبينونة ، ولو قذف أربع نسوة لاعن مع كل واحدة منهن ، ولو قذف أربع أجنبيات حد لهن حدا واحدا ، والفرق أن المقصود في الثانية الزجر ، وهو يحصل بحد واحد ، أما الأول فالمقصود باللعان دفع العار عن المرأة وإبطال نكاحها عليه وذلك لا يحصل بلعان واحد .

قال : ( وإذا قال : ليس حملك مني فلا لعان ) وقالا : إن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم القذف يجب اللعان لأنا تيقنا بقيام الحمل يومئذ ، وله أنه يومئذ لم يتيقن بقيام الحمل فلم يصر قاذفا ، وإذا لم يكن قاذفا في الحال يصير كأنه قال : إن كان بك حمل فليس مني ولا يثبت حكم القذف إذا كان معلقا بالشرط ، وأجمعوا أنه لا ينتفي نسب الحمل قبل الولادة لأنه حكم عليه ولا حكم على الجنين قبل الولادة كالإرث والوصية ، ولو نفى ولد زوجته الحرة فصدقته فلا حد [ ص: 222 ] ولا لعان وهو ابنهما لا يصدقان على نفيه ، لأن النسب حق الولد والأم لا تملك إسقاط حق ولدها فلا ينتفي بتصديقها ، وإنما لم يجب الحد واللعان لتصديقها لأنه لا يجوز لها أن تشهد أنه لمن الكاذبين وقد قالت إنه لصادق ، وإذا تعذر اللعان لا ينتفي النسب .

قال : ( ويصح نفي الولد عقيب الولادة وفي حالة التهنئة وابتياع آلة الولادة فيلاعن وينفيه القاضي ، وبعد ذلك يثبت نسبه ويلاعن ) وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه مقدر بسبعة أيام لأن أثر الولادة والتهنئة فيها اعتبارا بالعقيقة ، وقالا : يصح نفيه في مدة النفاس لأنه أثر الولادة ، وله أن الزوج لو نفاه عقيب الولادة انتفى بالإجماع ، ولو لم ينفه حتى طالت المدة لم يكن له نفيه بالإجماع فلا بد من حد فاصل ، ومعلوم أن الإنسان لا يشهد عليه بنسب ولده ، وإنما يستدل على ذلك بقبوله التهنئة وابتياع متاع الولادة وقبول هدية الأصدقاء ، فإذا فعل ذلك أو مضى مدة يفعل فيه ذلك عادة وهو ممسك كان اعترافا ظاهرا فلا يصح نفيه بعده .

قال : ( وإن كان غائبا فعلم فكأنها ولدت حال علمه ) معناه : أنه يصح نفيه عندهما في مدة النفاس بعد العلم . وعنده مدة التهنئة على ما بينا ، لأنه لا يجوز أن يلزمه النسب مع عدم علمه فصار حال علمه كحالة الولادة على الأصلين . وعن أبي يوسف إن علم قبل الفصال فهو مقدر بمدة النفاس وبعده ليس له أن ينفيه ، لأن قبل الفصال كمدة النفاس حيث لم ينتقل عن غذائه الأول وبعده ينتقل ويخرج عن حالة الصغر فيقبح نفيه كما لو بقي شيخا .

قال : ( من ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني ثبت نسبهما ولاعن ، وإن عكس فنفى الأول واعترف بالثاني ثبت نسبهما وحد ) أما ثبوت النسب فلأنهما توأمان خلقا من ماء واحد ، فمتى ثبت نسب أحدهما باعترافه ثبت نسب الآخر ضرورة . وأما اللعان في الأولى والحد في الثانية فلأنه لما نفى الثاني لم يكن مكذبا نفسه فيلاعن ، وفي الثانية لما نفى الأول صار مكذبا نفسه باعترافه الثاني فيحد ، ولو قال في المسألة الثانية : هما ابناي لا يحد ولا يكون تكذيبا لأنه صادق لأنهما لزماه من طريق الحكم فكان مخبرا عما ثبت بالحكم .




الخدمات العلمية