الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4615 - قال البخاري : رواه قتادة ويونس وهشيم وأبو هلال عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة . وقال يونس : لا أحسبه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القيد . وقال مسلم : لا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين ؟ .

وفي رواية نحوه ، وأدرج في الحديث قوله : " وأكره الغل . " إلى تمام الكلام .

التالي السابق


4615 - ( قال البخاري : رواه ) أي : الحديث مطلقا أو بالقيد ( قتادة ويونس وهشيم وأبو هلال ) أي : كلهم ( عن ابن سيرين عن أبي هريرة ) أي : مرفوعا في أوله وموقوفا في آخره . ( وقال يونس ) أي : أحد الرواة عن ابن سيرين ( لا أحسبه ) أي : لا أظن الحديث ( إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القيد ) ، أي : في شأنه . قلت : وتعبيره بيقال مما يأبى أن يكون موقوفا فضلا عن أن يكون مرفوعا .

( وقال مسلم : لا أدري هو ) أي : القيد ( في الحديث ) أي : مرفوع أو موقوف ( أم قاله ابن سيرين ؟ ) أي : من عنده . قلت : وهو الظاهر الذي لا ينبغي أن يشك فيه لما قدمناه ، لا يقال كلام الشيخين ليس في قوله ، ويقال : القيد ، بل في قوله : ويعجبهم القيد ; لأننا نقول : لو كان المراد هذا لما خص بالقيد ; لأن الغل كذلك ، هذا ولم يقل أحد من الشيخين أن فاعل قال راوي ابن سيرين ، وقال الطيبي وقوله : وكان يكره محتمل أن يكون مقولا لراوي ابن سيرين ، فيكون اسم كان ضمير ابن سيرين ، وأن يكون مقولا لابن سيرين ، فاسمه ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - فقول مسلم : لا أدري هو في الحديث أو قاله ابن سيرين معناه : لا أدري أن قال مقول لراوي ابن سيرين ، فيكون قولا لابن سيرين ، أو يكون مقولا لابن سيرين ، فيكون من الحديث إما عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو عن أبي هريرة ، واختار يونس أن يكون مقولا لابن سيرين ، واسم كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقوله : لا أحسبه ، أي : قال يونس في شأن القيد لا أحسبه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله : وأنا أقول يشعر بالاختصاص ، ورفع التوهم أن هذه الخلال الثلاث من متن الحديث الذي أدرج فيه هذه الخلال من غير فصل . قلت : فيه بحث ظاهر .

( وفي رواية ) أي : وفي رواية أخرى لهما أو لمسلم ( نحوه ) أي : نحو الحديث المذكور في المعنى ( وأدرج ) أي : أدخل وأدمج ( في الحديث ) أي : في هذه الرواية الأخرى ( قوله : " وأكره الغل " إلى تمام الكلام ) فيكون أكره عطفا على أقول ، فيصير نصا على أنه من جملة كلام ابن سيرين ، وهذا هو الظاهر الصحيح ، وبهذا التبيين يتضح ما في شرح السنة من رواية مسلم ، ورواه قتادة أيضا عن ابن سيرين ، وأدرج الكل في الحديث ، وقوله : ويقال القيد من أقوال المعبرين اهـ .

وفي الجامع الصغير برواية الترمذي ، وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا ولفظه : " الرؤيا ثلاث : فبشرى من الله ، وحديث النفس ، وتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصها إن شاء ، وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم يصلي ، وأكره الغل وأحب القيد ، والقيد ثبات في الدين " اهـ . فتأمل ، فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ، ولم يتضح حديث إلا بجمع ألفاظه ورواياته والله أعلم .

[ ص: 2921 ] وفي شرح مسلم للنووي ، قال العلماء : إنما أحب القيد ; لأنه في الرجلين ، وهو كف من المعاصي والشرور وأنواع الباطل . قلت : وفيه إيماء أيضا إلى اختيار الخلوة وترك الجلوة ، كما هو شأن أرباب العزلة من ترك الإقدام على الخروج بالأقدام وهو المعني بقولهم : القيد ثبات في الدين . قال : وأبغض الغل ; لأن موضعه العنق ، وهو صفة أهل النار قال تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم ، قلت : وفيه إشارة أيضا إلى أن الرقبة مستثقلة بالذمة من حقوق الله وغيره ، فهذا الاستثقال في الدنيا يورث الأغلال في الأخرى ، ثم رأيت بعض الشراح من علمائنا قال : وإنما يكون الغل في النوم ; لأن الغل تقييد العنق وتثقيله بتحمل الدين أو المظالم ، أو كونه محكوما ورقيقا متعلقا بشيء ، أو لأنه حق الكفار في النار .

قال النووي : وأما أهل التعبير فقالوا : إذا رأى القيد في الرجلين ، وهو في مسجد أو مشهد خير ، أو على حالة حسنة ، فهو دليل لثباته في ذلك ، ولو رآه مريض ، أو مسجون ، أو مسافر أو مكروب ، كان دليلا على ثباته فيه . قلت : بل هو إشارة إلى صبره وثبات قدمه بعدم الجزع والفزع والتردد إلى مخلوق مثله ، وبالقيام بما يجب عليه من حقوق الله وغيره . قال : وإذا انضم معه الغل دل على زيادة ما هو فيه من المكروه . قلت : بل له إشارة إلى وجوب تخليص ما في رقبته من قضاء الصلاة ، والتوبة عن السيئات ، وأداء ديون العباد ، واستحلال ما صدر منه في البلاد ، والحاصل أن الرؤيا مختلفة باختلاف الرائي ، فإنه قد يكون سالكا من مسالك طريق الدنيا ، وقد يكون سائرا في مسائر صراط العقبى ، فلكل تأويل يليق به ويناسب بحاله ومقامه ، وهذا أمر غير منضبط ، ولذا لم يجعل السلف فيه تأليفا مستقلا جامعا شاملا كافلا لأنواع الرؤيا ، وإنما تكلموا في بعض ما وقع لهم من القضايا ، ولذا لم تلق معبرين يكونان في تعبيرهما لشيء متفقين . قال : وأما إذا كانت اليدان مغلولتين في العنق ، فهو حسن ودليل على فكهما من الشر . قلت : وما أبعد هذا التأويل . نعم قوله : وقد يدل على البخل وهو الصواب لقوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، وهو يشمل الإمساك المالي والبخل الفعالي ، فقوله : وقد يدل على منع ما نواه من الأفعال مستدرك في المآل ، وله وجه آخر أن يؤول له بالعقوبة إن لم ينته عما فيه من المعصية ، كما أشار إليه قوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ، بناء على أنه إخبار عما سيقع لهم من الأغلال في الآخرة ، ويدل على هذا القول قوله : وكان يكره الغل ; لأنه بعمومه يشمل ما إذا كانت اليدان معه أو بدونه ، بل كونهما معه ينبغي أن يكون أشد كراهة ، فكيف يكون حسنا .




الخدمات العلمية