الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
118 - وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط عن ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال أي رب ! من هؤلاء ؟ فقال ذريتك . فرأى رجلا منهم فأعجبه ، وبيص ما بين عينيه ، قال : أي رب ! من هذا ؟ قال : داود . فقال : رب ! كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : رب زده من عمري أربعين سنة ) . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت ، فقال آدم ) : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ ! فجحد آدم ، فجحدت ذريته ، ونسي آدم فأكل من الشجرة ، فنسيت ذريته ، وخطأ وخطأت ذريته ) رواه الترمذي .

التالي السابق


118 - ( وعن أبي هريرة ) : رضي الله عنه ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لما خلق الله آدم مسح ظهره ) : تقدم ( فسقط ) أي : خرج ( من ظهره ) : وفي نسخة صحيحة : عن ظهره أي : بواسطة وغيرها ( كل نسمة ) أي : ذي روح ، وقيل : كل ذي نفس مأخوذة من النسيم قاله الطيبي ، وفي " القاموس " النسم محركة ؛ نفس الروح كالنسمة محركة ، ونفس الريح إذ كان ضعيفا كالنسيم ( هو خالقها من ذريته ) : الجملة صفة نسمة ذكرها ليتعلق بها قوله ( إلى يوم القيامة ) : ومن بيانية . وفي هذا الحديث دليل بين على أن إخراج الذرية كان حقيقيا ( وجعل بين عيني كل إنسان ) ، أي : منهم على نسخة ، والأصح بين عيني ثاني مفعولي جعل ، ويجوز أن يكون بمعنى خلق فيكون ظرفا له ( وبيصا ) أي : بريقا ولمعانا ( من نور ) : وفي ذكره إشارة إلى الفطرة السليمة ، وفي قوله : ( بين عيني كل إنسان ) إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر ، ( ثم عرضهم على آدم ، فقال أي رب ، من هؤلاء ؟ قال ) تعالى : هم ( ذريتك . فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، قال ) : بغير الفاء ( أي رب ! من هذا ؟ قال ) : تعالى ( هو داود ) : قيل : تخصيص التعجب من وبيص داود إظهار [ ص: 193 ] لكرامته ، ومدح له ، فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء ؛ لأن المفضول قد يكون له مزية ، بل مزايا ليست في الفاضل ، ولعل وجه الملاءمة بينهما اشتراك نسبة الخلافة ( فقال : رب ) : وفي نسخة صحيحة أي رب ( كم جعلت عمره ؟ ) : بضم العين ، والميم ، وقد تسكن ، وكم مفعول لما بعده ، وقدم لما له الصدر أي : كم سنة جعلت عمره ( قال : ستين سنة . قال : رب زده من عمري ) أي : من جملة الألف ، ومن عمري صفة أربعين قدمت فعادت حالا ، وقوله : ( أربعين سنة ) مفعول ثان لقوله : كقوله تعالى : ( رب زدني علما ) قال أبو البقاء : زاد يستعمل لازما كقوله : زاد الماء ، ويستعمل متعديا إلى مفعولين كقوله : زدته درهما ، وعلى هذا جاء قوله تعالى : ( فزادهم الله مرضا ) كذا ذكره الطيبي . قال ابن حجر : وقد يستعمل متعديا لواحد كزاد المال درهما . قال السيد جمال الدين : وفيه أن الأمثلة ليست نصا في التعدية إلى مفعولين لاحتمال التمييز تأمل . ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين ) أي : سنة كما في نسخة ( جاءه ملك الموت ، فقال آدم : أولم يبق ) : بفتح الياء ، والقاف ( من عمري أربعون سنة ؟ ! ) : بهمزة الاستفهام الإنكاري المنصب على نفي البقاء فيفيد إثباته ، وقدمت على الواو لصدارتها ، والواو استئنافية لمجرد الربط بين ما قبلها وما بعدها . فإن قلت : ما الفرق بين انقضى عمره إلا أربعين ، وبين بقي من عمر آدم أربعون ؟ قلت : في الاستثناء توكيد ليس في غيره قاله الطيبي ، قلت : لأن غيره يحتمل الأكثر ، وهو نص في بقاء الأربعين كلها ، كقوله تعالى : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) مع زيادة الإفادة في الآية من الأقربية إلى الضبط والدلالة على العدد المشهور في الكثرة ، والإشارة إلى جواز إلغاء الكسر كما هو جار على ألسنة العامة ( قال : أولم تعطها ) أي : أتقول ذلك ، ولم تعطها أي : الأربعين ( ابنك ) : مفعول ثان ( داود ؟ ! ) ، بدل ، أو عطف بيان ( فجحد آدم ) أي : ذلك لأنه كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجيء ملك الموت له قاله ابن حجر .

( فجحدت ذريته ) : لأن الولد سر أبيه ( ونسي آدم ) : إشارة إلى أن الجحد كان نسيانا أيضا إذ لا يجوز جحده عنادا ( وأكل من الشجرة ) قيل : نسي أن النهي عن جنس الشجرة ، أو الشجرة بعينها فأكل من غير المعينة ، وكان النهي عن الجنس ، والله أعلم ( فنسيت ذريته ) : ولذا قيل : أول الناس أول الناسي ( وخطأ ) : بفتح الطاء أي : في اجتهاد من جهة التعيين ، والتخصيص ، ( وخطأت ذريته ) : والأظهر أن خطأ بمعنى عصى ؛ لقوله تعالى ( وعصى آدم ربه ) ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " كلكم خطاءون ، وخير الخطائين التوابون " . قال الطيبي : وفي الحديث إشارة إلى ما نقله الشيخان : يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان : الحرص على المال ، والحرص على العمر ، وابن آدم وارد على سبيل الاستطراد ، وابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد والنسيان ، والخطأ إلا من عصمه الله . ( رواه الترمذي ) .

[ ص: 194 ]



الخدمات العلمية