الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 168 ] الفصل الثاني

94 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له اكتب فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر . فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد ) . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث غريب إسنادا .

التالي السابق


الفصل الثاني

94 - ( عن عبادة بن الصامت ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما خلق الله القلم : بالرفع وهو ظاهر ، وروي بالنصب ، قال بعض المغاربة : رفع القلم هو الرواية فإن صح النصب كان على لغة من ينصب خبر إن ، وقال المالكي : يجوز نصبه بتقدير كان ؛ على مذهب النسائي كقوله :


يا ليت أيام الصبا رواجعا



وقال المغربي : لا يجوز أن يكون القلم مفعول خلق ؛ لأن المراد أن القلم أول مخلوق ، وإذا جعل مفعولا لخلق أوجب أن يقال اسم إن ضمير الشأن ، وأول ظرف ، فينبغي أن تسقط الفاء من قوله فقال ؟ إذ يرجع المعنى إلى أنه قال له : اكتب حين خلقه فلا إخبار بكونه أول مخلوق اهـ . وإنما أوجب ما ذكر ؛ لأنه بدونه يفسد أصل المعنى إذ يصير التقدير أن أول شيء خلق الله القلم ، وهو غير صحيح ، وقيل : لو صحت الرواية بالنصب لم تمنع الفاء ذلك إذ يقدر قبل فقال : أمره ، وهو العامل في الظرف كذا حققه الطيبي ، وفيه أنه حينئذ لا يكون تنصيص على أولية خلق القلم الذي يدل عليه رواية الرفع الصحيحة ، وفي الأزهار : أول ما خلق الله القلم يعني بعد العرش والماء ، والريح لقوله - عليه الصلاة والسلام - : وكتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات ، والأراضين بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء . رواه مسلم . وعن ابن عباس سئل عن قوله تعالى : ( وكان عرشه على الماء ) على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح . رواه البيهقي ذكره الأبهري ، فالأولية إضافية ، والأول الحقيقي هو النور المحمدي على ما بينته في المورد للمولد . ( فقال ) أي : الله ، وفي نسخة صحيحة ( له ) ، أي : للقلم ( اكتب ) : أمر بالكتابة ( قال ) : وفي نسخة بالفاء ( ما أكتب ؟ ) : ما استفهامية مفعول مقدم على الفعل ( قال : اكتب القدر ) أي : المقدر المقضي ، وفي المصابيح قال : القدر ما كان إلخ . قال شراحه أي : اكتب القدر فنصبه بفعل مقدر ، وما كان بدل من المقدر ، أو عطف بيان ( فكتب ما كان ) : المضي بالنسبة إليه - عليه الصلاة والسلام - . قال الطيبي : ليس حكاية عما أمر به القلم ، وإلا لقيل فكتب ما يكون ، وإنما هو إخبار باعتبار حاله - عليه الصلاة والسلام - أي : قبل تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لا قبل القلم ؛ لأن الغرض أنه أول مخلوق . نعم إذا كانت الأولية نسبية صح أن يراد ما كان قبل القلم ، ( وما هو كائن ) ما : موصولة ( إلى الأبد ) : قال الأبهري : ما كان يعني العرش ، والماء ، والريح ، وذات الله وصفاته اهـ .

ويمكن أن يحمل ما كان على القضاء ، وما هو كائن على القدر ، والله أعلم ، ظهر لي فيه إشكال ، والله أعلم بالحال ، وهو : أن ما لا يتناهى في المآل كيف ينحصر ، وينضبط تحت القلم في الاستقبال سيما مع قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( جف القلم ) اللهم إلا أن يقال المراد به كتابة الأمور الإجمالية الكلية لا الأحوال التفصيلية الجزئية ، وهو خلاف ظواهر الأدلة المروية ، ثم رأيت الأبهري نقل عن زين العرب أن الأبد هو الزمان المستمر غير المنقطع ، فالجمع بينه وبين إلى ممتنع ؛ لأنه لا يمكن وصول شيء إليه حتى ينتهي . قلت : يحمل الأبد - على الزمان الطويل اهـ .

وفيه أن الزمان الطويل الله أعلم أنه انقراض العالم ، أو استقرار الفريقين في الموضعين ، ويلزم منه أن لا تكون أحوال الدارين مكتوبة ، والله أعلم ، ثم رأيت في الدر المنثور نقلا عن ابن عباس : أن أول شيء خلقه الله القلم ؛ فقال له : اكتب . فقال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر يجري من ذلك بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم طوي الكتاب ، ورفع القلم رواه البيهقي وغيره والحاكم ، وصححه . وفي الدر أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن أول شيء خلق الله القلم ، ثم النون ، وهي الدواة ، ثم قال له : اكتب ، [ ص: 169 ] قال : وما أكتب ؟ قال : ما كان ، وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل ، أو أثر ، أو رزق ، أو أجل ، فكتب ما يكون ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم ختم على فم القلم فلم ينطق ، ولا ينطق إلى يوم القيامة ) أخرجه الحكيم الترمذي ، هذا وروي : أن أول ما خلق الله العقل ، وإن أول ما خلق الله نوري ، وإن أول ما خلق الله روحي ، وإن أول ما خلق الله العرش ، والأولية من الأمور الإضافية فيؤول أن كل واحد مما ذكر خلق قبل ما هو من جنسه ، فالقلم خلق قبل جنس الأقلام ، ونوره قبل الأنوار ، وإلا فقد ثبت أن العرش قبل خلق السماوات ، والأرض ، فتطلق الأولية على كل واحد بشرط التقييد فيقال : أول المعاني كذا ، وأول الأنوار كذا ، ومنه قوله ( أول ما خلق الله نوري ) ، وفي رواية : روحي ، ومعناهما واحد ، فإن الأرواح نورانية أي : أول ما خلق الله من الأرواح روحي ( رواه الترمذي ، وقال : هذا الحديث غريب إسنادا ) أي : لا متنا ، والمراد به حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة ، وانفرد واحد بروايته عن صحابي آخر ، ومنه قول الترمذي : غريب من هذا الوجه ، واستيفاء هذا المبحث في أصول الحديث .




الخدمات العلمية