الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5719 - وعنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت صاحبتها : إنما ذهب بابنك . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى : لا تفعل ، يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضى به للصغرى " . متفق عليه .

التالي السابق


5719 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة رضي الله عنه ( عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : أتت امرأتان معهما ابنان " ) ، أي لكل واحدة منهما ابن ( جاء الذئب ) استئناف بيان ( فذهب بابن إحداهما ، فقالت صاحبتها ) أي : رفيقة إحداهما التي ذهب بابنها ( إنما ذهب بابنك . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ) . ولعل الولدين كانا شبيهين ، أو كانت إحداهما كاذبة ، لكنها تريد أن تستأنس بالموجود بدلا عن المفقود ، أو لأغراض أخر فاسدة وأمكار كاسدة . ( فتحاكمتا ) أي : فرفعتا الحكومة ( إلى داود فقضى به ) أي : حكم بالولد للكبرى ) ، إما لكونه في يدها على مقتضى القاعدة الشرعية أن صاحبة اليد أولى ، أو لأنه أشبه بها على اعتبار علم القيافة ، كما قال به الشافعي ، ( فخرجا على سليمان بن داود ) ، أي مارتين عليه ( فأخبرتاه ) ، أي : مما سبق من حالهما وتحقق من مآلهما ( فقال ) أي : لخدمه ( ائتوني بالسكين أشقه ) : بفتح القاف المشددة على جواب الأمر ، وفي نسخة بالرفع أي : أنا أقطع الولد نصفين ( بينكما ) أي : مقسومين ، والمعنى أنه على فرض أنكما لم تظهرا لي الصدق في أمره ، ولعل الأخرى أيضا كانت في أول الأمر متعلقة بالولد متمسكة باليد ، ومع هذا لم يرد حقيقة التنصيف ، وإنما صور لهما هذا التصوير توسلا إلى ما أراد به من ظهور أمارة التأليف ( فقالت الصغرى : لا تفعل ) ، أي الشق ( يرحمك الله ) أي : كما أوقعني في الرحمة على ولدي ( هو ابنها ) ، أي رضيت بأنه يكون ابنها وهو حي ، ولا أرضى بالشق المفضي إلى موته ، ( فقضى به للصغرى ) . أي لوجود قرينة الشفقة والرحمة فيها ، وتحقق القساوة واليبوسة والغفلة ، بل دلالة العداوة في الأخرى . قال شارح : واعلم أن قضاءهما حق ، لكونهما مجتهدين ، ومستند قضائهما في هذه القضية هي القرينة لكن القرينة التي قضى بها سليمان أقوى من حيث الظاهر وقيل : يحتمل أن قرائن الأحوال كانت في شرعهم بمثابة البينة يعني : ولو كانت إحداهما ذات اليد والله تعالى أعلم .

وفي شرح مسلم للنووي - رحمه الله - قالوا : يحتمل أن داود عليه الصلاة والسلام قضى به للكبرى لشبه رآه فيهما ، لكونه كان في يدها ، وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية ، وإنما أراد اختبار شفقتهما ليتميز له الأمر لا القطع حقيقة ، فلما تميز حكم للصغرى بإقرار الكبرى ، لا بمجرد الشفقة قلت : الإقرار لا دلالة للعبارة عليه ، ولا طريق للإشارة إليه . قال : وقال العلماء : ومثله ما يفعله الحكماء ليتوصلوا به إلى حقيقة الصواب . قلت : وقد حقق ابن القيم الجوزي هذا المبحث في كتاب " الفراسة في السياسة " .

قال النووي - رحمه الله - فإن قيل : كيف نقض سليمان حكم أبيه داود عليه الصلاة والسلام ؟ فالجواب من وجوه ، أحدها : أن داود لم يكن جزم بالحكم . وثانيها : أن يكون ذلك فتوى من داود لا حكما . وثالثها : لعله كان في شرعهم فسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه . قلت : وفي كل منها نظر ظاهر ، فالوجه أن القرينة الأقوى كانت عندها بالاعتبار هو الأولى ، وأما لو صح إقرار الكبرى بأنه للصغرى ، فلا إشكال بكل حال ، لأن الإقرار بعد الحكم معتبر في شرعنا أيضا ، كما إذا اعترف المحكوم عليه بعد الحكم بأن الحق لخصمه ، والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية