الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من البشر وغيرهم ، فالقادر على هذا قادر على ذاك . لعلكم تذكرون هذا الشبه فيزول استبعادكم للبعث الذي عبرتم عنه بقولكم : ( من يحيي العظام وهي رميم ) ( 36 : 78 ) ؟ ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) ( 37 : 16 ) ( أئنا لمدينون ) ( 37 : 53 ) ( ذلك رجع بعيد ) ( 50 : 3 ) وأمثال هذه الأقوال الدالة على إنكاركم لا منشأ له إلا ما تحكمون [ ص: 418 ] به بادي الرأي من امتناع خروج الحي من الميت ، ذاهلين عن خروج النبات الحي من الأرض الميتة ، وعن عدم الفرق بين حياة النبات وحياة الحيوان ، في خضوعهما لقدرة الرب الخالق لكل شيء ، فوجه الشبه في الآية هو إخراج الحي من الميت ، والحي في عرفهم يعرف بالنماء والتغذي كالنبات ، وبالحس والتحرك بالإرادة كالحيوان .

                          فإن قيل : إن العلم قد أثبت أن الحي لا يولد إلا من حي سواء في ذلك النبات والحيوان بأنواعه من أدنى الحشرات إلى أعلاها ، فالنبات الذي يخرج من الأرض القفراء بعد سقيها بالماء لابد أن يكون له بذور أو جذور فيها حياة كامنة لا تظهر من مكمنها إلا بالماء ، كما أن البيوض التي يتولد منها الحيوان - أدناها كالصئبان وبذور الديدان ، وأوسطها كبيض الطير والحيات ، وأعلاها كبيوض الأرحام - كلها ذات حياة لا تنتج إلا بتلقيح ماء الذكور لها ؟ .

                          قلنا : إن هذه الحياة لم تكن معروفة عند واضعي اللغة فهي اصطلاح جديد ، وأهل اللغة خوطبوا بعرفهم في الحياة والموت ففهموا ، بل إن قول هؤلاء العلماء لا ينفي صحة خروج النبات الحي من الأرض الميتة ، فلولا تغذي البذور والجذور بمواد الأرض الميتة بسبب الماء لما نبتت ، على أن بعض المتكلمين والمفسرين قالوا إن الإنسان يبلى كله إلا عجب الذنب وهو أصل الذنب المسمى بالعصعص أو رأس العصعص فهو كنواة النخلة تبقى فيه الحياة كامنة بعد فناء الجسم ، وإن الله تعالى ينزل من السماء ماء فينبت الناس من عجب الذنب كما ينبت البقل فهؤلاء يرون أن ذلك المطر يفعل فيه ما يفعل هذا المطر في الحب والنوى ، وليس لهذا القول أصل صريح يعد حجة قطعية في مسألة اعتقادية غير معقولة المعنى كهذه ، ولكن ورد في الآحاد من حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما ما يثبت بقاء عجب الذنب قال صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون . . . ويبقى كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب فيه يركب الخلق " هذا لفظ البخاري للمرفوع . وزاد مسلم بعد قوله أربعون " ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ( قال ) وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة " وهو غير صريح فيما تقدم ، ولكن جاء في تفسير الثعلبي وابن عطية عن أبي هريرة : أن بين النفختين أربعين عاما يرسل الله فيها على الموتى مطرا كمني الرجال من ماء تحت العرش يسمى ماء الحيوان فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء ثم ينفخ فيهم الروح عند النفخة الثانية ، وهذا التفصيل لا يصح فيه شيء مرفوع عنه ولا عن غيره ، ويعارضه كون الأرض تصير بالنفخة الأولى كما يأتي [ ص: 419 ] قريبا هباء منبثا وهذا قطعي ، وهو يعارض المرفوع أيضا ، فإن لم يمكن الجمع بينهما كان ذلك مطعنا في صحة الحديث .

                          وقد اختلف العلماء في حديث الشيخين نفسه ، فأخذ به الجمهور على إطلاقه وإجماله ، وأول بعضهم كون عجب الذنب لا يبلى بطول بقائه لا أنه لا يفنى مطلقا ، ذكره الحافظ في شرحه للحديث من الفتح . وفوض بعضهم معناه وسره إلى الله تعالى وخالف الإمام المزني صاحب الشافعي فقال بفنائه كما قال صاحب الجوهرة :

                          عجب الذنب كالروح لكن صححا المزني للبلى ورجحا

                          وإنما يقال لأهل العلم بالنبات وبالحياة النباتية والحيوانية : إنكم تقولون بأن الأرض كانت كرة نارية ملتهبة . وأن الأحياء الأولى وجدت فيها بالتولد الذاتي الذي انقطع بعد ذلك بتسلسل الأحياء ؛ لأن طبيعة الأرض لم تبق مستعدة له كما كانت وهي قريبة العهد بالتكوين . وقد نطق القرآن الحكيم بأن الأرض تفنى بتفرق مادتها ، ثم يعيدها الله كما بدأها . قال تعالى : ( إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا ) ( 56 : 4 - 6 ) فهذه الرجة التي سماها في سور أخرى بالقارعة والصاخة . والمعقول أن كوكبا يقرعها باصطدامه بها فتفتت جبالها وتكون كالهباء المتفرق في الجو وهو ما يسمونه بالسديم . وقال تعالى : ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) ( 21 : 104 ) ( كما بدأكم تعودون ) ( 29 ) والأشبه أن تشبيه الإعادة بالبدء إنما هو بالإجمال دون التفصيل ، فكما خلق الله جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ ثم نفخ فيه الروح - يخلق أجساد جميع أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسي في الحياة الدنيا ، لا أنه يجعلها متسلسلة بالتوالد من ذكر وأنثى كالنشأة الأولى ، إذ كانت الأجساد كاللباس للأرواح أو السكن لها ، وإذا كان الناس قد بلغوا من علم الكيمياء أن يحللوا بعض المواد المركبة من عناصر كثيرة ثم يركبوها ، أفيعجز خالق العالم كله أو يستبعد على قدرته أن يعيد أجساد ألوف الألوف مرة واحدة ؟ وأي فرق عنده بين القليل والكثير ، وهو على كل شيء قدير ؟ ! .

                          على أنه قد ثبت عند الروحيين من علماء الكون في هذا العصر وما قبله أن الله تعالى قد أعطى الأرواح المجردة قدرة على التصرف في مادة الكون بالتحليل والتركيب ، وأنها بذلك تركب لنفسها من هذه المادة جسما لطيفا أو كثيفا تحل فيه ، وهو ما يسميه علماؤنا بالتشكل في تفسير مجيء الملك جبريل النبي صلى الله عليه وسلم مرة بشكل أعرابي وأحيانا في صورة دحية الكلبي وتمثله للسيدة مريم بشرا سويا ، وإذا كان الماديون لا يصدقون الروحانيين في هذا ، فهم لا يستطيعون أن يقولوا إنه محال في نفسه . وإنما قصارى إنكارهم أن قالوا إنه لم يثبت [ ص: 420 ] عندنا . وإذا كان ممكنا غير محال أن يكون مما وهب الخالق للمخلوق ، أفيكون من المحال أن يفعله الخالق عز وجل من غير أن يجعل للأرواح فيه عملا ؟ .

                          ليس للكفار شبهة قوية على أصل البعث ، وكل ما كان يستبعده المتقدمون من أخبار عالم الغيب قد قربه ترقي العلوم الطبيعية إلى العقول والأفهام ، حتى قال بعض كبراء الغرب : ليس في العالم شيء محال . ولكن للمتقدمين والمتأخرين شبهة على حشر الأجساد ترد على ظاهر قول جمهور المسلمين أن كل أحد يحشر بجسده الذي كان عليه في الدنيا أو عند الموت لكي يقع الجزاء بعده على البدن الذي اقترف الأعمال .

                          وتقرير هذا الإيراد أن هذه الأجساد مركبة من العناصر المؤلفة منها مادة الكون كله ، وهي مشتركة يعرض لها التحليل والتركيب فتدخل الطائفة منها في عدة أبدان على التعاقب ، فمن الإنسان والحيوان ما تأكله الحيتان أو الوحوش ومنها ما يحرق فيذهب بعض أجزائه في الهواء فيتصل كل بخاري - أو غازي - منها بجنسه كبخار الماء وعنصريه والكربون ، وينحل ما يدفن في الأرض فيها ثم يتغذى بكل منهما النبات الذي يأكل بعضه الناس والأنعام فيكون جزءا من أجسادها ، ويأكل الناس من لحوم الحيتان والأنعام التي تغذت من أجساد الناس بالذات أو بالواسطة ، فلا يخلص لشخص معين جسد خاص به ، بل ثبت أن الأجساد الحية تنحل وتندثر بالتدريج ، وكلما انحل بعضها بالتبخر وبموت بعض الدقائق الحية يحل محله غيره من الغذاء بنسبة الدم المتحول من منتظمة بحسب سنن الله الذي أحسن كل شيء خلقه ، فلا يمر بضع سنين على جسد إلا ويتم اندثاره وتجدده فكيف يمكن أن يقال إن كل إنسان وحيوان يحشر بجسده الذي كان في الدنيا ؟

                          وقد أجاب بعض العلماء عن هذا بأن للجسد أجزاء أصلية وأجزاء فضلية ، والذي يعاد بعينه هو الأصلي دون الفضلة ، وجعل بعضهم الأصلي عبارة عن ذرات صغيرة كعجب الذنب الذي ورد أنه كحبة خردل ، بل جوز أن تكون هي التي ورد أن الله تعالى أودعها في صلب آدم أبي البشر بصورة الذر ، كما روي في تفسير قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) ( 172 ) الآية - وسيأتي تحقيق معناها وما ورد فيها في تفسير هذه السورة - وجوز شيخنا الشيخ حسين الجسر في الرسالة الحميدية أن يكون ذلك الذر مما لا يدركه الطرف لتناهي صغره كالأحياء المجهرية أي التي لا ترى إلا بالمنظار المسمى بالمجهر ( الميكروسكوب ) .

                          وقد بينا في غير هذا الموضع أن التزام القوم بوجوب حشر الأجساد التي كانت لكل حي بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها غير لازم لتحقيق العدل ، فجميع قضاة العالم المدني في هذا العصر يعتقدون أن أبدان البشر تتجدد في سنين قليلة ولا يوجد أحد منهم ولا من [ ص: 421 ] غيرهم من العقلاء يقول إن العقاب يسقط عن الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها . فما لم يكن عندنا نص صريح من القرآن أو الحديث المتواتر على بعث الأجساد بأعيانها فما نحن بملزمين قبول الإيراد وتكلف دفعه ؛ فإن حقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل ، فقد تبدلت أجسادنا مرارا ولم تتبدل بها حقيقتنا ولا مداركنا ، ولا تأثير الأعمال التي زاولناها قبل التبدل في أنفسنا ، بل لم يكن هذا التبدل إلا كتبدل الثياب كما بيناه من قبل ، وقد قال بعض أعلام المتكلمين بمثل هذا ولم تكن المسألة الأخيرة معلومة في عصرهم ، قال السعد التفتازاني في شرح المقاصد وهو أشهر كتب الكلام في التحقيق بعد بيانه لما قاله الغزالي في إثبات كون الحشر والمعاد للروح والجسد جميعا ما نصه :

                          " نعم ربما يميل كلامه وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أن معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلك البدن بدنا فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد خراب البدن . ولا يضرنا كون غير البدن الأول بحسب الشخص ولا امتناع إعادة المعدوم بعينه ، وما شهدت به النصوص من كون أهل الجنة جردا مردا ، وكون ضرس الكفار مثل جبل أحد يعضد ذلك ، وكذا قوله : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) ( 4 : 56 ) ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) ( 36 : 81 ) إشارة إلى هذا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية