الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة ; يسمع له ويطاع ; لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم ؛ حيث كان عن الشريعة أصم . إلى أن قال : ودليلنا قول الله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) [ 2 \ 30 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) [ 38 \ 26 ] . وقال : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) [ 24 \ 55 ] أي : يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم ، لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها . ولقال قائل : إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم . فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ، ثم إن الصديق - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد : هذا أمر غير واجب علينا ولا [ ص: 22 ] عليك . فدل على وجوبها ، وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين . انتهى من القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الله في أرضه ، ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي ، الذي تقدم في كلام القرطبي ، وكضرار وهشام الفوطي ونحوهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ولأن الله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، كما قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) ، لأن قوله : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت الإمامية : إن الإمامة واجبة بالعقل لا بالشرع .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الحسن البصري والجاحظ والبلخي : أنها تجب بالعقل والشرع معا ، واعلم أنما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة ، وما تتقوله في الاثني عشر إماما ، وفي الإمام المنتظر المعصوم ، ونحو ذلك من خرافاتهم ، وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك : فعليك بكتاب " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية " للعلامة الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية ، فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلقة ، فإذا حققت وجوب نصب الإمام الأعظم على المسلمين ، فاعلم أن الإمامة تنعقد له بأحد أمور : الأول : ما لو نص صلى الله عليه وسلم على أن فلانا هو الإمام فإنها تنعقد له بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : إن إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - من هذا القبيل ; لأن تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - في إمامة الصلاة وهي أهم شيء ، فيه الإشارة إلى التقديم للإمامة الكبرى وهو ظاهر . [ ص: 23 ] الثاني : هو اتفاق أهل الحل والعقد على بيعته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : إن إمامة أبي بكر منه ; لإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار عليها بعد الخلاف ، ولا عبرة بعدم رضى بعضهم ، كما وقع من سعد بن عبادة - رضي الله عنه - من عدم قبوله بيعة أبي بكر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يعهد إليه الخليفة الذي قبله ، كما وقع من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا القبيل جعل عمر - رضي الله عنه - الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنهم راض .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن يتغلب على الناس بسيفه ، وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر ، وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين ، وإراقة دمائهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض العلماء : ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد الله بن الزبير ، وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف ، فاستتب الأمر له . كما قاله ابن قدامة في " المغني " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن العلماء من يقول : تنعقد له الإمامة ببيعة واحد ، وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، ومال إليه القرطبي . وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل : ببيعة أربعة ، وقيل غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإمامة الكبرى . ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية في " المنهاج " أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته ، ويقدر به على تنفيذ أحكام الإمامة ; لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإمام .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية