الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن يعص الله ورسوله ) أي : بالشرك والكفر ، ويدل عليه قوله : ( خالدين فيها أبدا ) . وقرأ الجمهور : ( فإن له ) بكسر الهمزة . وقرأ طلحة : بفتحها ، والتقدير : فجزاؤه أن له . قال ابن خالويه : وسمعت ابن مجاهد يقول : ما قرأ به أحد وهو لحن ; لأنه بعد فاء الشرط . وسمعت ابن الأنباري يقول : هو ضراب ، ومعناه : فجزاؤه أن له نار جهنم . انتهى . وكان ابن مجاهد إماما في القراءات ، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ ، وكان ضعيفا في النحو . وكيف يقول ما قرأ به أحد ؟ وهذا كطلحة بن مصرف قرأ به . وكيف يقول : وهو لحن ؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر . وجمع ( خالدين ) حملا على معنى ( من ) ، وذلك بعد الحمل على لفظ ( من ) في قوله : ( يعص ) ( فإن له ) .

( حتى إذا رأوا ) ( حتى ) هنا حرف ابتداء ، أي : يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ، ومع ذلك فيها معنى الغاية . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق ( حتى ) وجعل ما بعده غاية له ؟ ( قلت ) : بقوله ( يكونون عليه لبدا ) على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم ( حتى إذا رأوا ما يوعدون ) من يوم بدر ، وإظهار الله له عليهم ، أو من يوم القيامة ( فسيعلمون ) حينئذ أنهم ( أضعف ناصرا وأقل عددا ) . ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه لا يزالون على ما هم عليه ( حتى إذا رأوا ما يوعدون ) . قال المشركون : متى يكون هذا الموعد إنكارا له ؟ فقيل : قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه ، فإن الله قد وعد ذلك ، وهو لا يخلف الميعاد . وأما وقته فلا أدري متى يكون ; لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة . انتهى . وقوله : بم تعلق ( إن ) ؟ عنى تعلق حرف الجر ، فليس بصحيح ; لأنها حرف ابتداء ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافا للزجاج وابن [ ص: 355 ] درستويه ، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء ، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها ، وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح . وأما تقديره أنها تتعلق بقوله : ( يكونون عليه لبدا ) فهو بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة . وقال التبريزي : حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ، ولم يبين ما المحذوف . وقيل : المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة ( فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ) أهم أم أهل الكتاب ؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم ، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون . فقوله : ( فإن له نار جهنم ) هو وعيد لهم بالنار ، و ( من أضعف ) مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله ، وهو معلق عنه لأن ( من ) استفهام . ويجوز أن تكون ( من ) موصولة في موضع نصب بـ ( سيعلمون ) ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف . والجملة صلة لمن ، وتقديره : هو أضعف ، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصرا . قال مكحول : لم ينزل هذا إلا في الجن ، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس ، قال : وبلغ من تابع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن سبعين ألفا ، وفزعوا عند انشقاق الفجر . ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به ، أهو قريب أم بعيد ؟ .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى قوله : ( أم يجعل له ربي أمدا ) والأمد يكون قريبا وبعيدا ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : ( تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) ؟ ( قلت ) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ( ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة ، أم مؤجل ضربت له غاية ) ؟ أي : هو عالم الغيب . ( فلا يظهر ) : فلا يطلع ، و ( من رسول ) تبيين لمن ارتضى ، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى ، وفي هذا إبطال للكرامات ; لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل . وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ; لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط . انتهى . وقال ابن عباس : ( عالم الغيب ) . قال الحسن : ما غاب عن خلقه ، وقيل : الساعة . وقال ابن عباس : ( إلا ) بمعنى لكن ، فجعله استثناء منقطعا . وقيل : ( إلا ) بمعنى ولا أي : ولا من ارتضى من رسول ، و ( عالم ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عالم الغيب ، أو بدل من ( ربي ) . وقرئ : ( عالما ) بالنصب على المدح . وقال السدي : علم الغيب ، فعلا ماضيا ناصبا الغيب ، والجمهور : عالم الغيب اسم فاعل مرفوعا . وقرأ الجمهور : ( فلا يظهر ) من أظهر . والحسن : يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر . ( إلا من ارتضى من رسول ) : استثناء من ( أحدا ) أي : فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك ، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول ( ومن خلفه رصدا ) أي : حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب . وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك .

وقال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم ، ثم ذكر استدلالا على بطلان ما يقوله المنجم ، ثم قال باستحلال دم المنجم . وقال الواحدي : في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك ، فقد كفر بما في القرآن . قال أبو عبد الله الرازي والواحدي : تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف ، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه ، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه ; لأن [ ص: 356 ] قوله : ( على غيبه ) ليس فيه صفة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه ، ويحمله على وقت قيام القيامة ، فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله : ( إن أدري أقريب ما توعدون ) الآية ، أي : لا أدري وقت وقوع القيامة ، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد . و ( إلا من ارتضى ) : استثناء منقطع ، كأنه قال : فلا يظهر على غيبه المخصوص أحدا إلا من ارتضى من رسول ، فله حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن .

قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل - عليهم الصلاة والسلام - والذي يدل عليه وجوه ، أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا ، صلى الله عليه وسلم . وثانيها : إطباق الأمم على صحة علم التعبير ، فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبل ويكون صادقا . وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل ، فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها ، فقد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك ، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير ، وقال : فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخبارا مطابقة موافقة . ورابعها : أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة ، ليس هذا مختصا بالأولياء ، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق ، وإن كان الكذب يقع منهم كثيرا . وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن ، وذلك باطل . فقلنا : إن التأويل الصحيح ما ذكرناه . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه [ ص: 357 ] المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه . أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب ; لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع ، كما جاء في الحديث : ( إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة ) . وليس هذا من علم الغيب ، إذ تكلمت به الملائكة ، وتلقفها الجني ، وتلقفها منه الكاهن . فالكاهن لم يعلم الغيب . وأما تعبير المنامات ، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع ، بل على سبيل الحزر والتخمين ، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع . وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلا أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا ، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق ، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف . وأما حكايته عن صاحب المعتبر ، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة . وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة ، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ، فلم أر أحدا منهم صاحب إلهام صادق . وأما الكرامات ، فلا أشك في صدور شيء منها ، لكن ذلك على سبيل الندرة ، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة . وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات ، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق .

وقرأ الجمهور : ( ليعلم ) مبنيا للفاعل . قال قتادة : ليعلم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا . وقال ابن جبير : ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم . وقال مجاهد : ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت ، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة . وقيل : ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود ; لأن علمه بكل شيء قد سبق . واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال : ( ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) : يعني الأنبياء . وحد أولا على اللفظ في قوله : ( من بين يديه ومن خلفه ) ، ثم جمع على المعنى كقوله : ( فإن له نار جهنم خالدين ) والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان ، وذكر العلم كذكره في قوله ( حتى نعلم المجاهدين ) . انتهى . وقيل : ( ليعلم ) أي : أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا . وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه . وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم . وقيل : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه . وقيل : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع . وقرأ ابن عباس وزيد بن علي : ( ليعلم ) بضم الياء مبنيا للمفعول . والزهري وابن أبي عبلة : بضم الياء وكسر اللام ، أي : ليعلم الله ، أي : من شاء أن يعلمه ، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته . وقرأ الجمهور : ( رسالات ) على الجمع . وأبو حيوة : على الإفراد . وقرأ الجمهور : ( وأحاط بما لديهم ) وأحاط مبنيا للفاعل ، أي : الله ، ( وأحصى ) مبنيا للفاعل ، أي : الله كل نصبا . وابن أبي عبلة : وأحيط وأحصي مبنيا للمفعول كل رفعا . ولما كان ليعلم مضمنا معنى علم ، صار المعنى : قد علم ذلك ، فعطف وأحاط على هذا الضمير ، والمعنى : وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء . ( وأحصى كل شيء عددا ) أي : معدودا محصورا ، وانتصابه على الحال من كل شيء ، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم . ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى ; لأنه في معنى إحصاء . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون تمييزا . انتهى ، فيكون منقولا من المفعول ، إذ أصله : وأحصى عدد كل شيء ، وفي كونه ثابتا من لسان العرب خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية