الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون .

بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله وإعداد العدة للآخرة أعقبه بهذا النهي تحذيرا عن الإعراض عن الدين والتغافل عن التقوى ، وذلك يفضي إلى الفسوق . وجيء [ ص: 113 ] في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصورا في صورة محسوسة هي صورة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى .

وهذا الإعراض مراتب قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود وإلى النفاق الذي تلبس به فريق ممن أظهروا الإسلام في أول سني الهجرة ، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة فيحتمل أن يراد بـ ( الذين نسوا الله ) المنافقين لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدى الإسلام فعبر عن النفاق بنسيان الله لأنه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال . وعبر عنهم بالفاسقين قوله تعالى : نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون في سورة براءة ، فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك .

ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه السلام وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .

فالمعنى : نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به ، قال تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم .

وقد أطلق نسيانهم على الترك والإعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله ودلائل صفاته ودلائل صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهم كتابه فالكلام بتقدير حذف مضاف أو مضافين .

ومعنى أنساهم أنفسهم أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإسلامي فيعملوا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صلاحهم في الدنيا ، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم ، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد وبين المسلمين بالاحتقار واللعن .

وأشعر فاء التسبب بأن إنساء الله إياهم أنفسهم مسبب على نسيانهم دين الله ، أي لما أعرضوا عن الهدى بكسبهم وإرادتهم عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم .

[ ص: 114 ] وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى كالذين نسوا الله دون أن يقال : نسوه لاستفظاع هذا النسيان فعلق باسم الله الذين خلقهم وأرشدهم .

والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله أولئك هم الفاسقون قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق حتى كأن فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم .

واسم الإشارة للتشهير بهم بهذا الوصف .

والفسق : الخروج من المكان الموضوع للشيء فهو صفة ذم غالبا لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء ، ومنه قيل : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، فالفاسقون هم الآتون بفواحش السيئات ومساوي الأعمال وأعظمها الإشراك .

وجملة أولئك هم الفاسقون مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان الإبهام الذي أفاده قوله فأنساهم أنفسهم كأن السامع سأل : ماذا كان إثر إنساء الله إياهم أنفسهم ؟ فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حق عليهم أن يقال : إنه لا فسق بعد فسقهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية