الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدي القرآن بتهديدهم [ ص: 358 ] بعذاب الدنيا ؛ إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل ، ومنه : ضرب ختمه . وضربت بيتا ، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما في سورة البقرة .

والمعنى : اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شبها لأهل مكة وإرسالك إليهم .

و " لهم " يجوز أن يتعلق بـ " اضرب " أي اضرب مثلا لأجلهم ، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم ، ويجوز أن يكون لهم صفة لـ " مثل " ، أي اضرب شبيها لهم كقوله تعالى فلا تضربوا لله الأمثال .

والمثل : الشبيه ، فقوله واضرب لهم مثلا معناه ونظر مثلا ، أي شبه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين ، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم ، جعل مثلا مفعولا لـ " اضرب " ، أي نظر حالهم بمشابه فيها فحصل الاختلاف بين اضرب ومثلا بالاعتبار . وانتصب مثلا على الحال .

وانتصب ( أصحاب القرية ) على البيان لـ " مثلا " ، أو بدل ، ويجوز أن يكون مفعولا أول لـ " اضرب " و " مثلا " مفعولا ثانيا كقوله تعالى " ضرب الله مثلا قرية " .

والمعنى : أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم .

والقرية ، قال المفسرون عن ابن عباس هي " ( أنطاكية ) " وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان .

والمرسلون إليها قال قتادة : هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رفع عيسى . وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك .

[ ص: 359 ] وتحقيق القصة : أن عيسى عليه السلام لم يدع إلى دينه غير بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإلهية إكماله من شريعة التوارة ، ولكن عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها ، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام . وكان ذلك في حدود سنة أربعين بعد مولد عيسى عليه السلام .

ووقعت اختلافات للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية وتحريفات في الأسماء ، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمال الرسل من كتب العهد الجديد أن " برنابا " و " شاول " المدعو " بولس " من تلاميذ الحواريين ووصفا بأنهما من الأنبياء ، كانا في أنطاكية مرسلين للتعليم ، وأنهما عززا بالتلميذ " سيلا " . وذكر المفسرون أن الثالث هو " شمعون " ، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بولس وبرنابا عززا بسمعان . ووقع في الإصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبي في أنطاكية اسمه " سمعان " .

والمكذبون هم من كانوا سكانا بأنطاكية من اليهود واليونان ، وليس في أعمال الرسل سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين والمرسل إليهم ، فذكر أنه كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم ، حتى اضطر " بولس وبرنابا " إلى أن خرجا من أنطاكية وقصدا أيقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن ، وأن أحبار النصارى في تلك المدائن رأوا أن يعيدوا بولس وبرنابا إلى أنطاكية . وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين ، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أورشليم أن يؤيداهما برجلين [ ص: 360 ] من الأنبياء هما " برسابا " و " سيلا " . فأما " برسابا " فلم يمكث . وأما " سيلا " فبقي مع " بولس وبرنابا " يعظون الناس . ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحابهم من الحواريين . فهذا معنى قوله تعالى إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أسند الإرسال والتعزيز إلى الله .

والتعزيز : التقوية ، وفي هذه المادة معنى جعل المقوى عزيزا ، فالأحسن أن التعزيز هو النصر .

وقرأ أبو بكر عن عاصم " فعززنا " بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عز بمعنى يحيي مرادفا لعزز كما قالوا شد وشدد . وقرأ الباقون بتشديد الزاي .

وتأكيد قولهم إنا إليكم مرسلون لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيدا وسطا ، ويسمى هذا ضربا طلبيا .

وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى .

التالي السابق


الخدمات العلمية