الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى

استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر ما أعد للمشركين من عذاب وما أعد للمؤمنين من خير ، وضمير جماعة المخاطبين مراد به المشركون لا محالة وليس في الكلام السابق ما يتوهم منه أن يكون : قل لا أسألكم . جوابا عنه ، فتعين أن جملة قل لا أسألكم عليه أجرا كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا .

ويظهر مما رواه الواحدي في أسباب النزول عن قتادة : أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا . فنزلت هذه الآية ( يعنون : إن كان ذلك جمعنا له مالا كما قالوه له غير مرة ) أنها لا اتصال لها بما قبلها وأنها لما عرض سبب نزولها نزلت في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها فتكون جملة ابتدائية . وكان موقعها هنا لمناسبة ما سبق من ذكر حجاج المشركين وعنادهم فإن مناسبتها لما معها من الآيات موجودة إذ هي من جملة ما واجه به القرآن محاجة المشركين ، ونفى به أوهامهم ، واستفتح بصائرهم إلى النظر في علامات صدق الرسول ; فهي جملة ابتدائية وقعت معترضة بين جملة والذين آمنوا وعملوا الصالحات وجملة ومن يقترف حسنة .

[ ص: 82 ] وابتدئت بـ ( قل ) إما لأنها جواب عن كلام صدر منهم ، وإما لأنها مما يهتم بإبلاغه إليهم كما أن نظائرها افتتحت بمثل ذلك ؛ مثل قوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم وقوله : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقوله : قل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وضمير ( عليه ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام .

والأجر : الجزاء الذي يعطاه أحد على عمل يعمله ، وتقدم عند قوله تعالى : إن الله عنده أجر عظيم في سورة " براءة " .

والمودة : المحبة والمعاملة الحسنة المشبهة معاملة المتحابين ، وتقدمت عند قوله : مودة بينكم في الحياة الدنيا في سورة العنكبوت . والكلام على تقدير مضاف ؛ أي معاملة المودة ، أي المجاملة ؛ بقرينة أن المحبة لا تسأل لأنها انبعاث وانفعال نفساني .

و ( في ) للظرفية المجازية لأن مجرورها وهو ( القربى ) لا يصلح لأن يكون مظروفا فيه .

ومعنى الظرفية المجازية هنا : التعليل ، وهو معنى كثير العروض لحرف ( في ) كقوله : وجاهدوا في الله .

والقربى : اسم مصدر كالرجعى والبشرى ، وهي قرابة النسب ، قال تعالى : وآت ذا القربى حقه ، وقال زهير :


وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

. . . . البيت

وتقدم عند قوله تعالى : ( ولذي القربى ) في سورة الأنفال .

ومعنى الآية على ما يقتضيه نظمها : لا أسألكم على القرآن جزاء إلا أن تودوني ، أي أن تعاملوني معاملة الود ، أي غير معاملة العداوة ، لأجل القرابة التي بيننا في النسب القرشي .

[ ص: 83 ] وفي صحيح البخاري وجامع الترمذي سئل ابن عباس عن هذه الآية بحضرة سعيد بن جبير فابتدر سعيد فقال : قربى آل محمد ، فقال ابن عباس عجلت ؛ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة .

وذكر القرطبي عن الشعبي أنه قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله له قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في قرابتي منكم ، أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني ، فالقربى هاهنا قرابة الرحم كأنه قال : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة . انتهى كلام القرطبي .

وما فسر به بعض المفسرين أن المعنى : إلا أن تودوا أقاربي تلفيق معنى عن فهم غير منظور فيه إلى الأسلوب العربي ، ولا تصح فيه رواية عمن يعتد بفهمه .

أما كون محبة آل النبيء صلى الله عليه وسلم لأجل محبة ما له اتصال به خلقا من أخلاق المسلمين فحاصل من أدلة أخرى ، وتحديد حدودها مفصل في الشفاء لعياض .

والاستثناء منقطع لأن المودة لأجل القرابة ليست من الجزاء على تبليغ الدعوة بالقرآن ولكنها مما تقتضيه المروءة فليس استثناؤها من عموم الأجر المنفي استثناء حقيقيا . والمعنى : لا أسألكم على التبليغ أجرا وأسألكم المودة لأجل القربى .

وإنما سألهم المودة لأن معاملتهم إياه معاملة المودة معينة على نشر دعوة الإسلام ، إذ تلين بتلك المعاملة شكيمتهم فيتركون مقاومته فيتمكن من تبليغ دعوة الإسلام على وجه أكمل . فصارت هذه المودة غرضا دينيا لا نفع فيه لنفس النبيء صلى الله عليه وسلم .

وفي بعض الأخبار الموضوعة في أسباب النزول أن سبب نزول هذه الآية : أن النبيء صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب لا يسعها ما في يديه . فقالت الأنصار : إن هذا الرجل هداكم الله به فنجمع له مالا ، ففعلوا ثم أتوه به ، فنزلت . [ ص: 84 ] وفي رواية : أن الأنصار قالوا له يوما : أنفسنا وأموالنا لك ، فنزلت . وقيل نزل ذلك الذي يبشر الله عباده إلى قوله : إنه عليم بذات الصدور . ولأجل ذلك قال فريق : إن هذه الآيات مدنية كما تقدم في أول السورة وهي أخبار واهية .

وتضمنت الآية أن النبيء صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يتطلب من الناس جزاء على تبليغ الهدى إليهم فإن النبوءة أعظم مرتبة في تعليم الحق . وهي فوق مرتبة الحكمة ، والحكماء تنزهوا عن أخذ الأجر على تعليم الحكمة ، فإن الحكمة خير كثير والخير الكثير لا تقابله أعراض الدنيا ، ولذلك أمر الله رسله بالتنزه عن طلب جزاء على التبليغ ، فقال حكاية عن نوح وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . وكذلك حكى عن هود وصالح ولوط وشعيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية