الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل فإن الله عدو للكافرين موقع هاته الجملة موقع الجمل قبلها من قوله قل فلم تقتلون أنبئاء الله وقوله " قل بئسما يأمركم " وقوله " قل إن كانت لكم الدار الآخرة " فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم نؤمن بما أنزل علينا لأنهم أظهروا به عذرا عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب في الواقع وهو الحسد على نزول القرآن على رجل من غيرهم ، فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال معذرتهم وفضح مقصدهم . فأبطل أولا ما تضمنه قولهم نؤمن بما أنزل علينا من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا رسلهم أيضا بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله " قل فلم تقتلون " وقوله " قل بئسما " إلخ [ ص: 620 ] وأبطل ثانيا ما تضمنه من أنهم شديدو التمسك بما أنزل عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله قل إن كانت لكم الدار الآخرة وأبطل ثالثا أن يكون ذلك العذر هو الصارف لهم عن الإيمان مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هناقل من كان عدوا لجبريل إلخ . ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله " نزله " عائدا على ما أنزل الله في الآية المجابة بهاته الإبطالات ، ولذلك فصلت هذه كما فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك مستأنفة .

والعدو المبغض وهو مشتق من عدا عليه يعدو بمعنى وثب ، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فعول . وجبريل اسم عبراني للملك المرسل من الله تعالى بالوحي لرسله مركب من كلمتين . وفيه لغات أشهرها جبريل كقطمير وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ الجمهور . ( وجبريل ( بفتح الجيم وكسر الراء وقع في قراءة ابن كثير وهذا وزن فعليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس . وجبرئيل بفتح الجيم أيضا وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم وقيس وبعض أهل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي . وجبرئل بفتح الجيم والراء بينها وبين اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قرئ بها في الشواذ .

وهو اسم مركب من كلمتين : كلمة جبر وكلمة إيل . فأما كلمة جبر فمعناها عند الجمهور نقلا عن العبرانية أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القوة . وأما كلمة إيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى .

وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها . وقد قفا أبو العلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة برسالة الغفران فقال : قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل الخيرات سبيل أن في مسكني حماطة إلخ . أي قد علم الله الذي نسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القسم وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة .

وعداوة اليهود لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 621 ] وقيل لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد ، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي . وقوله " من كان عدوا لجبريل " شرط عام مراد به خاص وهم اليهود . قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر .

وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبيء فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي فما أول أشراط الساعة ؟ ، وما أول طعام أهل الجنة ؟ ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفا قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال الحديث ، وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم . وذكر المفسرون أسبابا أخرى لبغضهم جبريل . ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات الانحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظافر آرائهم على الخطأ والأوهام .

وقوله فإنه نزله على قلبك بإذن الله الضمير المنصوب بـ " نزله " عائد للقرآن إما لأنه تقدم في قوله وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد حتى توارت بالحجاب ، فلولا إذا بلغت الحلقوم وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط .

لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان عدوا لجبريل فلا يعاده وليعاد الله تعالى . وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى " بإذن الله " وأظهر ارتباطا بقوله بعد : " من كان عدوا لله وملائكته " كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قد نزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب قل موتوا بغيظكم كقول الربيع بن زياد :


من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت ساحتنا بوجه نهار     يجد النساء حواسرا يندبنه
بالليل قبل تبلج الإسفار

أي فلا يسر بمقتله فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان [ ص: 622 ] مسرورا بمقتله . ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقا لكتابهم وفيه هدى وبشرى ، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف . والإتيان بحرف التوكيد في قوله " فإنه نزله " لأنهم منكرون ذلك .

والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم ، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " كما يطلقونه أيضا على العضو الباطني الصنوبري كما قال :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

و " مصدقا " حال من الضمير المنصوب في أنزله أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله مقارنا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتب وذلك التوراة والإنجيل . والمصدق المخبر بصدق أحد . وأدخلت لام التقوية على مفعول مصدقا للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلا بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة .

وتصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل .

والمراد بما بين يديه ما سبقته وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ، ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمرا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلا .

والهدى وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به . والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال ورضى من الله تعالى ، وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة .

فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله . وأنه منزل على قلب الرسول . وأنه مصدق لما سبقه من الكتب . وأنه هاد أبلغ هدى . وأنه بشرى [ ص: 623 ] للمؤمنين ، الثناء على القرآن بكرم الأصل ، وكرم المقر . وكرم الفئة . ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيرا عاجلا . وواعد لهم بعاقبة الخير .

وهذه خصال الرجل الكريم محتده . وبيته . وقومه . السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم :


إن السماحة والمروءة والندى     في قبة ضربت على ابن الحشرج

وقوله " من كان عدوا لله " إلخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى فإنه نزله على قلبك بإذن الله أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالآخرة إلى إلزامهم بعداوتهم الله المرسل ، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل ، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول ، وأعداء الملائكة لذلك ، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين الصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل . وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد من يطع الرسول فقد أطاع الله فإن ذلك بعيد .

وقد أثبت لهم عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدا لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى : وهم بأمره يعملون كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمدا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته ، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول ، فمن عادى واحدا كان حقيقا بأن يعاديهم كلهم وإلا كان فعله تحكما لا عذر له فيه .

وخص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليذكر معه ميكائيل ولعلهم عادوهما معا أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا نحن نحب ميكائيل فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته .

وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور [ ص: 624 ] الثانية : ( ميكائل ( بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع . الثالثة : ( ميكال ( بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز .

وقوله فإن الله عدو للكافرين جواب الشرط . والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة :


فإنك كالليل الذي هو مدركي

البيت وقوله تعالى ووجد الله عنده فوفاه حسابه وما ظنك بمن عاداه الله . ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة أمير المؤمنين يأمر بكذا حثا على الامتثال . والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل . وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن تلك العداوة كفر . ولتكون الجملة تذييلا لما قبلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية