الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب المزارعة بالشطر ونحوه وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وقال الحسن لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فينفقان جميعا فما خرج فهو بينهما ورأى ذلك الزهري وقال الحسن لا بأس أن يجتنى القطن على النصف وقال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحكم والزهري وقتادة لا بأس أن يعطي الثوب بالثلث أو الربع ونحوه وقال معمر لا بأس أن تكون الماشية على الثلث والربع إلى أجل مسمى

                                                                                                                                                                                                        2203 حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الوسق وكانت عائشة اختارت الأرض [ ص: 14 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 14 ] قوله : ( باب المزارعة بالشطر ونحوه ) راعى المصنف لفظ الشطر لوروده في الحديث ، وألحق غيره لتساويهما في المعنى ، ولولا مراعاة لفظ الحديث لكان قوله : المزارعة بالجزء ؛ أخصر وأبين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال قيس بن مسلم ) هو الكوفي ( عن أبي جعفر ) هو محمد بن علي بن الحسين الباقر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع ) الواو عاطفة على الفعل لا على المجرور ، أي يزرعون على الثلث ويزرعون على الربع ، أو الواو بمعنى أو ، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق قال : " أخبرنا الثوري قال : أخبرنا قيس بن مسلم به " وحكى ابن التين أن القابسي أنكر هذا وقال : كيف يروي قيس بن مسلم هذا عن أبي جعفر وقيس كوفي وأبو جعفر مدني ولا يرويه عن أبي جعفر أحد من المدنيين ؟ وهو تعجب من غير عجب ، وكم من ثقة تفرد بما لم يشاركه فيه ثقة آخر ، وإذا كان الثقة حافظا لم يضره الانفراد .

                                                                                                                                                                                                        والواقع أن قيسا لم ينفرد به فقد وافقه غيره في بعض معناه كما سيأتي قريبا . ثم حكى ابن التين عن القابسي أغرب من ذلك فقال : إنما ذكر البخاري هذه الآثار في هذا الباب ليعلم أنه لم يصح في المزارعة على الجزء حديث مسند ، وكأنه غفل عن آخر حديث في الباب وهو حديث ابن عمر في ذلك وهو معتمد من قال بالجواز ، والحق أن البخاري إنما أراد بسياق هذه الآثار الإشارة إلى أن الصحابة لم ينقل عنهم خلاف في الجواز خصوصا أهل المدينة ، فيلزم من يقدم عملهم على الأخبار المرفوعة أن يقولوا بالجواز على قاعدتهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وزارع علي وابن مسعود وسعد بن مالك وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين ) ، أما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق عمرو [ ص: 15 ] بن صليع عنه " أنه لم ير بأسا بالمزارعة على النصف " ، وأما أثر ابن مسعود وسعد بن مالك - وهو سعد بن أبي وقاص - فوصلهما ابن أبي شيبة أيضا من طريق موسى بن طلحة قال : " كان سعد بن مالك وابن مسعود يزارعان بالثلث والربع " ووصله سعيد بن منصور من هذا الوجه بلفظ " أن عثمان بن عفان أقطع خمسة من الصحابة الزبير وسعدا وابن مسعود وخبابا وأسامة بن زيد ، قال : فرأيت جاري ابن مسعود وسعدا يعطيان أرضيهما بالثلث " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر عمر بن عبد العزيز فوصله ابن أبي شيبة من طريق خالد الحذاء " أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة أن يزارع بالثلث والربع " وروينا في " الخراج ليحيى بن آدم " بإسناده إلى عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله : انظر ما قبلكم من أرض فأعطوها بالمزارعة على النصف وإلا فعلى الثلث حتى تبلغ العشر . فإن لم يزرعها أحد فامنحها ، وإلا فأنفق عليها من مال المسلمين ، ولا تبيرن قبلك أرضا " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر القاسم بن محمد فوصله عبد الرزاق قال : " سمعت هشاما يحدث أن ابن سيرين أرسله إلى القاسم بن محمد ليسأله عن رجل قال لآخر : اعمل في حائطي هذا ولك الثلث والربع ، قال : لا بأس ، قال فرجعت إلى ابن سيرين فأخبرته فقال : هذا أحسن ما يصنع في الأرض " .

                                                                                                                                                                                                        وروى النسائي من طريق ابن عون قال : " كان محمد يعني ابن سيرين يقول : الأرض عندي مثل المال المضاربة ، فما صلح في المال المضاربة صلح في الأرض وما لم يصلح في المال المضاربة لم يصلح في الأرض . قال : وكان لا يرى بأسا أن يدفع أرضه إلى الأكار على أن يعمل فيها بنفسه وولده وأعوانه وبقره ولا ينفق شيئا وتكون النفقة كلها من رب الأرض " .

                                                                                                                                                                                                        وأما أثر عروة وهو ابن الزبير فوصله ابن أبي شيبة أيضا . وأما أثر أبي بكر ومن ذكر معهم فروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق أخرى إلى أبي جعفر الباقر أنه " سئل عن المزارعة بالثلث والربع فقال : إني إن نظرت في آل أبي بكر وآل عمر وآل علي وجدتهم يفعلون ذلك " وأما أثر ابن سيرين فتقدم مع القاسم بن محمد . وروى سعيد بن منصور من وجه آخر عنه أنه " كان لا يرى بأسا أن يجعل الرجل للرجل طائفة من زرعه أو حرثه على أن يكفيه مؤنتها والقيام عليها " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عبد الرحمن بن الأسود : كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع ) وصله ابن أبي شيبة وزاد فيه " وأحمله إلى علقمة ، والأسود ، فلو رأيا به بأسا لنهياني عنه " وروى النسائي من طريق أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود قال : " كان عماي يزارعان بالثلث والربع وأنا شريكهما ، وعلقمة والأسود يعلمان فلا يغيران " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا ) وصله ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد " أن عمر أجلى أهل نجران واليهود والنصارى واشترى بياض أرضهم وكرومهم ، فعامل عمر الناس إن هم جاءوا بالبقر والحديد من عندهم فلهم الثلثان ولعمر الثلث ، وإن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وعاملهم في النخل على أن لهم الخمس وله الباقي ، وعاملهم في الكرم على أن لهم الثلث وله الثلثان " وهذا مرسل ، وأخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز قال : " لما استخلف عمر أجلى أهل نجران وأهل فدك وتيماء وأهل خيبر ، واشترى عقارهم وأموالهم ، واستعمل يعلى بن منية فأعطى البياض - يعني بياض الأرض - على إن كان البذر والبقر [ ص: 16 ] والحديد من عمر فلهم الثلث ولعمر الثلثان ، وإن كان منهم فلهم الشطر وله الشطر ، وأعطى النخل والعنب على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث " ، وهذا مرسل أيضا فيتقوى أحدهما بالآخر .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرجه الطحاوي من هذا الوجه بلفظ " إن عمر بن الخطاب بعث يعلى بن منية إلى اليمن فأمره أن يعطيهم الأرض البيضاء " فذكر مثله سواء ، وكأن المصنف أبهم المقدار بقوله : " فلهم كذا " لهذا الاختلاف ، لأن غرضه منه أن عمر أجاز المعاملة بالجزء .

                                                                                                                                                                                                        وقد استشكل هذا الصنيع بأنه يقتضي جواز بيعتين في بيعة ، لأن ظاهره وقوع العقد على إحدى الصورتين من غير تعيين ، ويحتمل أن يراد بذلك التنويع والتخيير قبل العقد ثم يقع العقد على أحد الأمرين ، أو أنه كان يرى ذلك جعالة فلا يضره . نعم في إيراد المصنف هذا الأثر وغيره في هذه الترجمة ما يقتضي أنه يرى أن المزارعة والمخابرة بمعنى واحد ، وهو وجه للشافعية ، والوجه الآخر أنهما مختلفا المعنى : فالمزارعة العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من المالك ، والمخابرة مثلها لكن البذر من العامل .

                                                                                                                                                                                                        وقد أجازهما أحمد في رواية ، ومن الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي ، وقال ابن سريج بجواز المزارعة وسكت عن المخابرة ، وعكسه الجوري من الشافعية ، وهو المشهور عن أحمد ، وقال الباقون : لا يجوز واحد منهما ، وحملوا الآثار الواردة في ذلك على المساقاة وسيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فينتفعان جميعا ، فما خرج فهو بينهما ، ورأى ذلك الزهري ، وقال الحسن : لا بأس أن يجتنى القطن على النصف ) . أما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور بنحوه . وأما قول الزهري فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة بنحوه . قال ابن التين : قول الحسن في القطن يوافق قول مالك ، وأجاز أيضا أن يقول : ما جنيت فلك نصفه ، ومنعه بعض أصحابه . ويمكن أن يكون الحسن أراد أنه جعالة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحكم والزهري وقتادة : لا بأس أن يعطي الثوب بالثلث أو الربع ونحوه ) أي لا بأس أن يعطى للنساج الغزل بنسجه ويكون ثلث المنسوج له والباقي لمالك الغزل ، وأطلق الثوب عليه بطريق المجاز . وأما قول إبراهيم فوصله أبو بكر الأثرم من طريق الحكم أنه سأل إبراهيم عن الحواك يعطى الثوب على الثلث والربع فقال : لا بأس بذلك .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول ابن سيرين فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن عون سألت محمدا هو ابن سيرين عن الرجل يدفع إلى النساج الثوب بالثلث أو الربع أو بما تراضيا عليه ، فقال : لا أعلم به بأسا . وأما قول عطاء والحكم فوصلهما ابن أبي شيبة . وأما قول الزهري فوصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عنه قال : لا بأس أن يدفعه إليه بالثلث . وأما قول قتادة فوصله ابن أبي شيبة بلفظ : أنه كان لا يرى بأسا أن يدفع الثوب إلى النساج بالثلث :

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال معمر : لا بأس أن تكرى الماشية على الثلث أو الربع إلى أجل مسمى ) وصله عبد الرزاق عنه بهذا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عبيد الله ) هو ابن عمر العمري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بشطر ما يخرج منها ) هذا الحديث هو عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك واستمراره على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر كما سيأتي بعد أبواب واستدل به على [ ص: 17 ] جواز المساقاة في النخل والكرم وجميع الشجر الذي من شأنه أن يثمر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمرة ، وبه قال الجمهور . وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم ، وألحق المقل بالنخل لشبهه به . وخصه داود بالنخل ، وقال أبو حنيفة وزفر : لا يجوز بحال لأنها إجارة بثمرة معدومة أو مجهولة ، وأجاب من جوزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة ، لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه وهو معدوم ومجهول ، وقد صح عقد الإجارة مع أن المنافع معدومة فكذلك هنا . وأيضا فالقياس في إبطال نص أو إجماع مردود .

                                                                                                                                                                                                        وأجاب بعضهم عن قصة خيبر بأنها فتحت صلحا ، وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمرة ، فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية فلا يدل على جواز المساقاة . وتعقب بأن معظم خيبر فتح عنوة كما سيأتي في المغازي ، وبأن كثيرا منها قسم بين الغانمين كما سيأتي ، وبأن عمر أجلاهم منها . فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها . واستدل من أجازه في جميع الثمر بأن في بعض طرق حديث الباب " بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر " وفي رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر في حديث الباب " على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشجر " وهو عند البيهقي من هذا الوجه ، واستدل بقوله على شطر ما يخرج منها لجواز المساقاة بجزء معلوم لا مجهول ، واستدل به على جواز إخراج البذر من العامل أو المالك لعدم تقييده في الحديث بشيء من ذلك ، واحتج من منع بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة وهو لا يجوز ، وأجاب من أجازه بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة جمعا بين الحديثين وهو أولى من إلغاء أحدهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فكان يعطي أزواجه مائة وسق : ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير ) كذا للأكثر بالرفع على القطع ، والتقدير منها ثمانون ومنها عشرون ، وللكشميهني " ثمانين وعشرين " على البدل ، وإنما كان عمر يعطيهن ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ما تركت بعد نفقة نسائي فهو صدقة وسيأتي في بابه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقسم عمر ) أي خيبر ، صرح بذلك أحمد في روايته عن ابن نمير عن عبيد الله بن عمر ، وسيأتي بعد أبواب من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر " أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز " وسيأتي ذكر السبب في ذلك في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية