الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الغيبة وقول الله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم

                                                                                                                                                                                                        5705 حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش قال سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستتر من بوله وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين فغرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب الغيبة وقول الله - تعالى - : ولا يغتب بعضكم بعضا الآية ) هكذا اكتفى بذكر الآية المصرحة بالنهي عن الغيبة ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر ، وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها ، فأما حدها فقال الراغب : هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك . وقال الغزالي : حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه . وقال ابن الأثير في النهاية : الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه . وقال النووي في " الأذكار " تبعا للغزالي : ذكر المرء بما يكرهه ، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسه أو غير ذلك مما يتعلق به ، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز . قال النووي : وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به ، ومنه قولهم عند ذكره : الله يعافينا ، الله يتوب علينا ، نسأل الله السلامة ونحو ذلك ، فكل ذلك من الغيبة . وتمسك من قال : إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكرهه . قال : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " وله شاهد مرسل عن المطلب بن عبد الله عند مالك ، فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص فدل على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره ، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها ; وبذلك جزم أهل اللغة . قال ابن التين : الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب . وكذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في التفسير وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال : الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا . قال : وحكم الكناية والإشارة مع النية كذلك . وكلام من أطلق منهم محمول على المقيد في ذلك . وقد وقع [ ص: 485 ] في حديث سليم بن جابر [1] والحديث سيق لبيان صفتها واكتفي باسمها على ذكر محلها . نعم المواجهة بما ذكر حرام لأنه داخل في السب والشتم ، وأما حكمها فقال النووي في " الأذكار " : الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين ، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك . وذكر في " الروضة " تبعا للرافعي أنها من الصغائر ، وتعقبه جماعة . ونقل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه . وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العمدة [2] والغزالي . وصرح بعضهم بأنها من الكبائر . وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل ، فمن اغتاب وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا . وقد قالوا : ضابطها ذكر الشخص بما يكره ، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه ، وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم . وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد وحديث سعيد بن زيد رفعه إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق أخرجه أبو داود ، وله شاهد عند البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة ، وعند أبي يعلى من حديث عائشة ، ومن حديث أبي هريرة رفعه من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا ، فيأكله ويكلح ويصيح سنده حسن . وفي " الأدب المفرد " عن ابن مسعود قال : ما التقم أحد لقمة شرا من اغتياب مؤمن الحديث ، وفيه أيضا وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا وإن رجلا قال لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة " وأخرج أحمد والبخاري في " الأدب المفرد " بسند حسن عن جابر قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهاجت ريح منتنة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين " وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر ، لكن تقييده في بعضها بغير حق قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر أنها ذكر المرء بما فيه .

                                                                                                                                                                                                        حديث ابن عباس قال : " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبرين يعذبان " الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة ، وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه يمشي بالنميمة ، قال ابن التين : إنما ترجم بالغيبة وذكر النميمة لأن الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه بظهر الغيب . وقال الكرماني : الغيبة نوع من النميمة لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمه . قلت : الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة ، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه مما يسوؤه قاصدا بذلك الإفساد ، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك ، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحا ، وهو ما أخرجه هو في " الأدب المفرد " من حديث جابر قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى على قبرين - فذكر فيه نحو حديث الباب وقال فيه - أما أحدهما فكان يغتاب الناس " الحديث . وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بكر قال : " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال : إنهما يعذبان ، وما يعذبان في كبير وبكى - وفيه - وما يعذبان إلا في الغيبة والبول " ولأحمد والطبراني أيضا من حديث يعلى بن شبابة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على قبر يعذب صاحبه فقال : إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة " الحديث ، ورواته موثقون . ولأبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند [ ص: 486 ] جيد مثله . وأخرجه الطبراني وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطبري في التفسير . وأكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة . والظاهر اتحاد القصة ، ويحتمل التعدد ، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الطهارة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية