الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( 11 ) إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ولتطمئن به قلوبكم " ، " إذ يغشيكم النعاس " ، ويعني بقوله : ( يغشيكم النعاس ) ، يلقي عليكم النعاس ( أمنة ) يقول : أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل .

15758 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله قال : النعاس في القتال ، أمنة من الله عز وجل ، وفي الصلاة من الشيطان .

15759 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري في قوله : " يغشاكم النعاس أمنة منه " ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله ، فذكر مثله .

15760 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه . [ ص: 420 ]

و" الأمنة " مصدر من قول القائل : " أمنت من كذا أمنة ، وأمانا ، وأمنا " وكل ذلك بمعنى واحد .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

15761 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أمنة منه ) ، أمانا من الله عز وجل .

15762 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أمنة ) ، قال : أمنا من الله .

15763 - حدثني يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قوله : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ، قال : أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد . فقرأ : ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ) [ سورة آل عمران : 154 ] .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " ،

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة : " يغشيكم النعاس " بضم الياء وتخفيف الشين ، ونصب " النعاس " ، من : " أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم " .

وقرأته عامة قرأة الكوفيين : ( يغشيكم ) ، بضم الياء وتشديد الشين ، من : " غشاهم الله النعاس فهو يغشيهم " .

وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : " يغشاكم النعاس " ، بفتح الياء ورفع " النعاس " ، بمعنى : " غشيهم النعاس فهو يغشاهم " . [ ص: 421 ]

واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في " آل عمران " : ( يغشى طائفة ) [ سورة آل عمران : 154 ] .

قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب : ( إذ يغشيكم ) ، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القراء على قراءة قوله : ( وينزل عليكم من السماء ماء ) ، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك ( يغشيكم ) ، إذ كان قوله : ( وينزل ) ، عطفا على " يغشي " ، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد .

وأما قوله عز وجل : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم ، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مجنبين على غير ماء . فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا ، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر . فذلك ربطه على قلوبهم ، وتقويته أسبابهم ، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثاء ، فلبدها المطر ، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئة من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه ، أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم .

وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن [ أصحاب ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من أهل العلم . [ ص: 422 ]

ذكر الأخبار الواردة بذلك :

15764 - حدثنا هارون بن إسحاق قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي رضي الله عنه قال : أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر ، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ! " فلما أن طلع الفجر ، نادى : " الصلاة عباد الله ! " ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرض على القتال .

15765 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : ( ماء ليطهركم به ) ، قال : طش يوم بدر .

15766 - حدثني الحسن بن يزيد قال ، حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه . [ ص: 423 ]

15767 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب ، قالا طش يوم بدر .

15768 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الآية : ( ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ، قالا طش كان يوم بدر ، فثبت الله به الأقدام .

15769 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " الآية ، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذ حتى سال الوادي ماء ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان .

15770 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال ، نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني : حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت [ ص: 424 ] الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .

15771 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " إلى قوله : ( ويثبت به الأقدام ) ، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون ، وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله عليها المطر ، فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .

15772 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر ، فانطلقوا . قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله . فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يجنب فلا يقدر على الماء ، فيصلي جنبا ، فألقى الشيطان في قلوبهم فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم ، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء ! ، قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا ، واشتدت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، فاشتدت لهم من المطر ، واشتدوا عليها . [ ص: 425 ]

15773 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء ، فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيا ، وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء ، وتصلون مجنبين محدثين ! قال : فأنزل الله عز وجل ماء من السماء ، فسال كل واد ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان .

15774 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( ماء ليطهركم به ) ، قال : المطر ، أنزله عليهم قبل النعاس ( رجز الشيطان ) ، قال : وسوسته . قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

15775 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ماء ليطهركم به ) ، أنزله عليهم قبل النعاس ، طبق بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام .

15776 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ماء ليطهركم به ) ، قال : القطر ( ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ، وساوسه . أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

15777 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 426 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " رجز الشيطان " ، وسوسته .

15778 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر ( وليذهب عنكم رجز الشيطان ) ، الذي ألقى في قلوبكم : ليس لكم بهؤلاء طاقة ! ( وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) .

15779 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ، إلى قوله : ( ويثبت به الأقدام ) ، إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله ، وأن محمدا نبي الله ، وقد غلبتم على الماء ، وأنتم تصلون محدثين مجنبين ! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد ، فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم ، وسقوا دوابهم ، واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام . وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب ، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت ، وثبتت فيها الأقدام .

15780 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " ، أي : أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، " وينزل عليكم من السماء ماء " ، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخلى سبيل المؤمنين إليه ( ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) ، ليذهب عنهم شك [ ص: 427 ] الشيطان ، بتخويفه إياهم عدوهم ، واستجلاد الأرض لهم ، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوهم .

15781 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة ، وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام " ، حتى تشتدون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض .

15782 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب وقال مرة : قرأ ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، فقال سعيد : إنما هي : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " . قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشا يوم بدر .

وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : ( ويثبت به الأقدام ) ، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوهم . [ ص: 428 ]

وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من ذكرنا ، وقد بينا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم .

وأما قوله : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ) ، أنصركم ( فثبتوا الذين آمنوا ) ، يقول : قووا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين .

وقد قيل : إن تثبيت الملائكة المؤمنين ، كان حضورهم حربهم معهم .

وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم .

وقيل : كان ذلك بأن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن ! فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم . قالوا : وذلك كان وحي الله إلى ملائكته .

وأما ابن إسحاق ، فإنه قال بما : -

15783 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فثبتوا الذين آمنوا ) ، أي : فآزروا الذين آمنوا . [ ص: 429 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية