الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( 25 ) )

يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ( ويصدون عن سبيل الله ) يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض ; ( سواء العاكف فيه والباد ) يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به; والباد : وهو المنتاب إليه من غيره .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه; والباد في أنه ليس أحدهما بأحق بالمنزل فيه من الآخر .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عمرو عن يزيد بن أبي زياد عن ابن سابط قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة [ ص: 596 ] لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل . ففشا فيهم السرق ، وكل إنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا إنما جعلته ليحرز متاعهم ، وهو قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحق بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن أبي حصين قال : قلت لسعيد بن جبير : أعتكف بمكة ، قال : أنت عاكف . وقرأ : ( سواء العاكف فيه والباد ) .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عمن ذكره ، عن أبي صالح : ( سواء العاكف فيه والباد ) العاكف : أهله ، والباد : المنتاب في المنزل سواء .

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : العاكف فيه : المقيم بمكة; والباد : الذي يأتيه هم فيه سواء في البيوت .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة : ( سواء العاكف فيه والباد ) سواء فيه أهله وغير أهله .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال ثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء .

وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، [ ص: 597 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : ( سواء العاكف فيه ) قال : الساكن ، ( والباد ) الجانب سواء حق الله عليهما فيه .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله : ( سواء العاكف فيه ) قال : الساكن ( والباد ) الجانب .

قال : ثنا الحسين قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد وعطاء : ( سواء العاكف فيه ) قالا من أهله ، ( والباد ) الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء .

وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، لأن الله تعالى ذكره ، ذكر في أول الآية صد من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) ثم ذكر جل ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال : ( الذي جعلناه للناس ) فأخبر جل ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه ، ثم قال : ( سواء العاكف فيه والباد ) فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدوا عنه المؤمنين به ، وذلك لا شك طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم . وقيل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) فعطف ب " يصدون " وهو مستقبل على كفروا ، وهو ماض ، لأن الصد بمعنى الصفة لهم والدوام . وإذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ، ولا يكون بلفظ الماضي . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصد عن سبيل الله ، وذلك نظير قول الله : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) . وأما قوله : ( سواء العاكف فيه ) فإن قراء الأمصار على رفع " سواء " بالعاكف ، والعاكف به ، وإعمال جعلناه في الهاء المتصلة به ، واللام التي في قوله للناس ، ثم استأنف الكلام بسواء ، وكذلك تفعل العرب بسواء إذا جاءت بعد حرف قد تم الكلام به ، فتقول : مررت برجل سواء عنده الخير والشر ، وقد يجوز في ذلك الخفض ، وإنما يختار الرفع في ذلك لأن سواء في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : مررت برجل واحد عنده الخير والشر . وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدل عنده الخير والشر ، ومن قال ذلك في [ ص: 598 ] سواء فاستأنف به ، ورفع لم يقله في معتدل ، لأن معتدل فعل مصرح ، وسواء مصدر فإخراجهم إياه إلى الفعل كإخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل . وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه نصبا على إعمال جعلناه فيه ، وذلك وإن كان له وجه في العربية ، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القراء على خلافه .

وقوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) يقول تعالى ذكره : ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم ، وأدخلت الباء في قوله بإلحاد ، والمعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله : ( تنبت بالدهن ) والمعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :


بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان



والمعنى : وأسفله ينبت المرخ والشبهان; وكما قال أعشى بني ثعلبة :


ضمنت برزق عيالنا أرماحنا     بين المراجل والصريح الأجرد

[ ص: 599 ] بمعنى : ضمنت رزق عيالنا أرماحنا في قول بعض نحويي البصريين . وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول : أدخلت الباء فيه ، لأن تأويله : ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم . وكان يقول : دخول الباء في أن أسهل منه في " إلحاد " وما أشبهه ، لأن أن تضمر الخوافض معها كثيرا ، وتكون كالشرط ، فاحتملت دخول الخافض وخروجه ، لأن الإعراب لا يتبين فيها ، وقال في المصادر : يتبين الرفع والخفض فيها ، قال : وأنشدني أبو الجراح :


فلما رجت بالشرب هز لها العصا     شحيح له عند الأداء نهيم



وقال امرؤ القيس :


ألا هل أتاها والحوادث جمة     بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا



قال : فأدخل الباء على أن وهي في موضع رفع كما أدخلها على إلحاد ، وهو في موضع نصب ، قال : وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر : [ ص: 600 ]

ألم يأتيك والأنباء تنمي     بما لاقت لبون بني زياد



وقال : وهو في " ما " أقل منه في " أن " ، لأن " أن " أقل شبها بالأسماء من " ما " . قال : وسمعت أعرابيا من ربيعة ، وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذاك : يريد أرجو ذاك .

واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به : أي بالبيت .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) يقول : بشرك .

حدثنا علي قال : ثنا حكام عن عنبسة عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) هو أن يعبد فيه غير الله .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، قال : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : هو الشرك ، من أشرك في بيت الله عذبه الله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة مثله .

وقال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد [ ص: 601 ] بظلم نذقه من عذاب أليم ) يعني أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : يعمل فيه عملا سيئا .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأودي قالا ثنا المحاربي عن سفيان عن السدي عن مرة عن عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعد أن بين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم .

حدثنا مجاهد بن موسى قال : ثنا يزيد قال : ثنا شعبة عن السدي عن مرة عن عبد الله قال مجاهد قال يزيد قال لنا شعبة رفعه ، وأنا لا أرفعه لك في قول الله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال : لو أن رجلا هم فيه بسيئة وهو بعدن أبين ، لأذاقه الله عذابا أليما .

حدثنا الفضل بن الصباح قال : ثنا محمد بن فضيل عن أبيه ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها ، فتكتب عليه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال : الإلحاد : الظلم في الحرم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : ( بإلحاد بظلم ) قال : الذي يريد استحلاله متعمدا ، ويقال الشرك . [ ص: 602 ] وقال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني هارون بن إدريس الأصم قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن أشعث عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال : هم المحتكرون الطعام بمكة .

وقال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيا عنه من الفعل ، حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحل ، والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا والله ، وبلى والله .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن أبي ربعي عن الأعمش قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا والله وبلى والله من الإلحاد فيه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس من أنه معني بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله ، وذلك أن الله عم بقوله ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له . وقد ذكر عن بعض القراء أنه كان يقرأ ذلك ( ومن يرد فيه ) بفتح الياء بمعنى : ومن يرده بإلحاد من وردت المكان أرده . وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القراء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب ، وذلك أن يرد فعل واقع ، يقال منه : وهو يرد مكان كذا أو بلدة كذا ، ولا يقال : يرد في مكان كذا . وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب ، أن طيئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا : [ ص: 603 ]

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه     ولكنني عن سنبس لست أرغب



بمعنى : وأرغب بها . فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به فغير جائزة لما وصفت .

التالي السابق


الخدمات العلمية