الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ( 19 ) يصهر به ما في بطونهم والجلود ( 20 ) ولهم مقامع من حديد ( 21 ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ( 22 ) )

اختلف أهل التأويل في المعني بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الآخر : عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا [ ص: 588 ] أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) نزلت في الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة قال : وقال على : إني لأول ، أو من أول من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى .

حدثنا علي بن سهل قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم بالله قسما : لنزلت هذه الآية في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) . . . إلى آخر الآية ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . . إلى آخر الآية .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا محمد بن محبب قال : ثنا سفيان عن منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف قال : نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة بن الفضل قال : ثني محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت هؤلاء الآيات : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في الذين تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . إلى قوله ( وهدوا إلى صراط الحميد ) .

قال : ثنا جرير عن منصور عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : والله لأنزلت هذه الآية : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة رحمة الله عليهم وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة .

وقال آخرون : ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان ، بل الفريق الآخر أهل [ ص: 589 ] الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا . وكان ذلك خصومتهم في ربهم .

وقال آخرون منهم : بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أي ملة كانوا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح وأبي قزعة عن الحسين قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم .

قال ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد : مثل الكافر والمؤمن . قال ابن جريج : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا أبو بكر بن عياش قال : كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث .

وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية : الجنة والنار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة عن جابر عن عكرمة في ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة : [ ص: 590 ] خلقني الله لرحمته ، فقد قص الله عليك من خبرهما ما تسمع .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : عنى بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين ، وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والآخر : أهل معصية له ، قد حق عليه العذاب ، فقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) ثم قال : ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) وقال الله ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ) ; فكان بينا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما .

فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن أبي ذر إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما روي عنه ، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب ، وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم .

فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه .

وقوله : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار .

كما حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد في قوله : [ ص: 591 ] ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الآنية أحمى وأشد حرا منه .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار . وقوله : ( يصب من فوق رءوسهم الحميم ) يقول : يصب على رءوسهم ماء مغلي .

كما حدثنا محمد بن المثنى قال : ثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال : ثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد عن أبي السمح عن ابن جحيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الحميم ليصب على رءوسهم ، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهي الصهر ، ثم يعاد كما كان " .

حدثني محمد بن المثنى قال : ثنا يعمر بن بشر قال : ثنا ابن المبارك قال : أخبرنا سعيد بن زيد عن أبي السمح عن ابن جحيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : " فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه " .

وكان بعضهم يزعم أن قوله ( ولهم مقامع من حديد ) من المؤخر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، ولهم مقامع من حديد يصب من فوق رءوسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصب فيه الحميم الذي انتهى حره فيقطع بطنه . والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا يدل على خلاف ما قال هذا القائل ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صب على رءوسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رءوسهم قبل صب الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 592 ] " إن الحميم ينفذ الجمجمة " معنى : ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل .

وقوله : ( يصهر به ما في بطونهم والجلود ) يقول : يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم ما في بطونهم من الشحوم ، وتشوى جلودهم منه فتتساقط ، والصهر : هو الإذابة ، يقال منه : صهرت الألية بالنار : إذا أذبتها أصهرها صهرا; ومنه قول الشاعر :


تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس ولا ينصهر



ومنه قول الراجز :


شك السفافيد الشواء المصطهر



وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( يصهر به ) قال : يذاب إذابة .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله . قال ابن جريج ( يصهر به ) قال : ما قطع لهم من العذاب .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة : ( يصهر به ما في بطونهم ) قال : يذاب به ما في بطونهم .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة مثله .

[ ص: 593 ] حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) . . . إلى قوله : ( يصهر به ما في بطونهم والجلود ) يقول : يسقون ما إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعيد بن جبير قال : قال هارون : إذا عام أهل النار ، وقال جعفر : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فيأكلون منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مر بهم يعرفهم ، يعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش ، فيستغيثوا ، فيغاثوا بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود و ( يصهر به ما في بطونهم ) يعني أمعاءهم ، وتساقط جلودهم ، ثم يضربون بمقامع من حديد ، فيسقط كل عضو على حاله ، يدعون بالويل والثبور . وقوله : ( ولهم مقامع من حديد ) تضرب رءوسهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار حتى ترجعهم إليها . وقوله : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) يقول : كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغم والكرب ردوا إليها .

كما حدثنا مجاهد بن موسى قال : ثنا جعفر بن عون قال : أخبرنا الأعمش عن أبي ظبيان قال : النار سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ) وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها ، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع ، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع : ( ذوقوا عذاب الحريق ) . وعنى بقوله : ( وذوقوا عذاب الحريق ) ويقال لهم ذوقوا عذاب النار ، وقيل عذاب الحريق والمعنى : المحرق ، كما قيل : العذاب الأليم ، بمعنى المؤلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية