الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( 109 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( أفمن أسس بنيانه ) .

فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة : " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه " . [ ص: 491 ] على وجه ما لم يسم فاعله في الحرفين كليهما .

وقرأت ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق : " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه " على وصف " من " بأنه الفاعل الذي أسس بنيانه .

قال أبو جعفر : وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى " من " إذ كان هو المؤسس أعجب إلي .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : أي هؤلاء الذين بنوا المساجد خير - أيها الناس - عندكم : الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على اتقاء الله ، بطاعتهم في بنائه ، وأداء فرائضه ورضا من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك ، وفعلهم ما فعلوه - خير أم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على شفا جرف هار ؟

يعني بقوله : ( على شفا جرف ) على حرف جرف .

" والجرف " من الركايا ، ما لم يبن له جول [ ص: 492 ] ( هار ) يعني متهور . وإنما هو " هائر " ولكنه قلب ، فأخرت ياؤها فقيل : " هار " كما قيل : " هو شاكي السلاح " " وشائك " وأصله من " هار يهور فهو هائر " وقيل : " هو من هار يهار " إذا انهدم . ومن جعله من هذه اللغة قال : " هرت يا جرف " ومن جعله " من هار يهور " قال : " هرت يا جرف " .

قال أبو جعفر : وإنما هذا مثل . يقول - تعالى ذكره - : أي هذين الفريقين خير ؟ وأي هذين البناءين أثبت ؟ أمن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله ، وعلم منه بأن بناءه لله طاعة ، والله به راض ، أم من ابتدأه بنفاق وضلال ، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه ، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه ، فيهدمه ، كما يأتي البناء على جرف ركية لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه ، ثرية التراب متناثرة ، لا تلبثه السيول أن تهدمه وتنثره ؟

يقول الله - جل ثناؤه - : ( فانهار به في نار جهنم ) يعني : فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم كما : -

17244 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( فانهار به ) يعني قواعده ( في نار جهنم ) .

17245 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فانهار به ) يقول : فخر به .

17246 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ) إلى قوله : ( فانهار به في نار جهنم ) [ ص: 493 ] قال : والله ما تناهى أن وقع في النار . ذكر لنا أنه تحفرت بقعة منها ، فرئي منها الدخان .

17247 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : بنو عمرو بن عوف . استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنيانه ، فأذن لهم ، ففرغوا منه يوم الجمعة ، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد . قال : وانهار يوم الاثنين . قال : وكان قد استنظرهم ثلاثا ، السبت والأحد والاثنين ( فانهار به في نار جهنم ) مسجد المنافقين ، انهار فلم يتناه دون أن وقع في النار . قال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه ، فأبصروا الدخان يخرج منه .

17248 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج ، عن طلق بن حبيب ، عن جابر قوله : ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) قال : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .

17249 - حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال : حدثنا أبو سلمة قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج قال : حدثني طلق العنزي ، [ ص: 494 ] عن جابر بن عبد الله قال : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار .

17250 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال : حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني : زمان بني أمية فمررنا بالمدينة ، فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس . فلما كان زمان أبي جعفر قالوا : يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهذا البناء الذي ترون جرى على يد عبد الصمد بن علي . ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن ، وفيه حجر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مزبلة .

قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) يقول : والله لا يوفق للرشاد في أفعاله من كان بانيا بناءه في غير حقه وموضعه ، ومن كان منافقا مخالفا بفعله أمر الله وأمر رسوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية