الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 30 ) )

قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في القائل : ( عزير ابن الله ) .

فقال بعضهم : كان ذلك رجلا واحدا ، هو فنحاص .

ذكر من قال ذلك :

16619 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص . وقالوا : هو الذي قال : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) ، [ سورة آل عمران : 181 ] . [ ص: 202 ]

وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم .

ذكر من قال ذلك :

16620 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشأس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) ، إلى : ( أنى يؤفكون ) .

16621 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم ، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ، ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضا ، فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبده ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله ، وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدره من التوراة ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من [ ص: 203 ] التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم ، قد آتاني الله التوراة وردها إلي ! فعلق بهم يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم ، ثم إن التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .

16622 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقوا ، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال . وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال ، لا ينزل إلا يوم عيد ، فجعل الغلام يبكي ويقول : "رب تركت بني إسرائيل بغير عالم" ! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه ، فنزل مرة إلى العيد ، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسياه ! فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ قالت : الله! قال : فإن الله حي لم يمت! قالت : يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال : الله! قالت : فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خصم ، ولى مدبرا ، فدعته فقالت : يا عزير ، إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصل ركعتين ، [ ص: 204 ] فإنه يأتيك شيخ ، فما أعطاك فخذه ، فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين ، فجاءه الشيخ فقال : افتح فمك! ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ، مجتمع كهيئة القوارير ، ثلاث مرار ، فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا : يا عزير ، ما كنت كذابا! فعمد فربط على كل إصبع له قلما ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلها ، فلما رجع العلماء ، أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خواب مدفونة ، فعارضوها بتوراة عزير ، فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه !

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : " وقالت اليهود عزير ابن الله " ، لا ينونون " عزيرا" .

وقرأه بعض المكيين والكوفيين : ( عزير ابن الله ) ، بتنوين " عزير " قال : هو اسم مجرى وإن كان أعجميا ، لخفته . وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : "زيد ابن عبد الله" ، وأوقع "الابن" موقع الخبر . ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه ، إذا كان الابن خبرا ، الإجراء ، والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه .

وأما من ترك تنوين " عزير " ، فإنه لما كانت الباء من "ابن" ساكنة مع التنوين الساكن ، والتقى ساكنان ، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه ، قال الراجز : [ ص: 205 ]


لتجدني بالأمير برا وبالقناة مدعسا مكرا



إذا غطيف السلمي فرا

فحذف النون للساكن الذي استقبلها .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأ : ( عزير ابن الله ) ، بتنوين " عزير " ، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان "الابن" نعتا للاسم ، [ وتنونه إذا كان خبرا ] ، كقولهم : "هذا زيد ابن عبد الله" ، فأرادوا الخبر عن "زيد" بأنه "ابن عبد الله" ، ولم يريدوا أن يجعلوا "الابن" له نعتا و"الابن" في هذا الموضع خبر ل"عزير" ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن "عزير" ، أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين .

( وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يعني قول اليهود : ( عزير ابن الله ) . يقول : يشبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ، كذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرا إلى أنه لله ابن ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه ، [ ص: 206 ] بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

16623 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول : يشبهون .

16624 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم .

16625 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في "عزير" .

16626 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول : النصارى ، يضاهئون قول اليهود .

16627 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان .

وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قول أهل الأوثان ، الذين قالوا : "اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى" . [ ص: 207 ]

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : ( يضاهون ) ، بغير همز .

وقرأه عاصم : ( يضاهئون ) ، بالهمز ، وهي لغة لثقيف .

وهما لغتان ، يقال : "ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة" و"ضاهأته عليه مضاهأة" ، إذا مالأته عليه وأعنته .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار ، واللغة الفصحى .

وأما قوله : ( قاتلهم الله ) ، فإن معناه ، فيما ذكر عن ابن عباس ، ما : -

16628 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( قاتلهم الله ) ، يقول : لعنهم الله . وكل شيء في القرآن "قتل" ، فهو لعن .

وقال ابن جريج في ذلك ما : -

16629 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( قاتلهم الله ) ، يعني النصارى ، كلمة من كلام العرب .

فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون : معناه : قتلهم الله . والعرب تقول : "قاتعك الله" ، و"قاتعها الله" ، بمعنى : قاتلك الله . قالوا : و"قاتعك الله" أهون من "قاتله الله" .

وقد ذكروا أنهم يقولون : "شاقاه الله ما تاقاه" ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه . [ ص: 208 ]

قالوا : ومعنى قوله : ( قاتلهم الله ) ، كقوله : ( قتل الخراصون ) ، [ سورة الذاريات : 10 ] ، و ( قتل أصحاب الأخدود ) ، [ سورة البروج : 4 ] ، واحد هو بمعنى التعجب .

فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأن "فاعلت" لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين ، كقولهم : "خاصمت فلانا" ، و"قاتلته" ، وما أشبه ذلك . وقد زعموا أن قولهم : "عافاك الله" منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء .

وقوله : ( أنى يؤفكون ) ، يقول : أي وجه يذهب بهم ، ويحيدون؟ وكيف يصدون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية