الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    [ ص: 191 ] ( فأتبع سببا ( 85 ) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ( 86 ) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ( 87 ) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ( 88 ) ) .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن عباس : ( فأتبع سببا ) يعني : بالسبب المنزل ] . وقال مجاهد : ( فأتبع سببا ) : منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب .

                                                                                                                                                                                                    وفي رواية عن مجاهد : ( سببا ) قال : طريقا في الأرض .

                                                                                                                                                                                                    وقال قتادة : أي أتبع منازل الأرض ومعالمها .

                                                                                                                                                                                                    وقال الضحاك : ( فأتبع سببا ) أي المنازل .

                                                                                                                                                                                                    وقال سعيد بن جبير في قوله : ( فأتبع سببا ) قال : علما . وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                    وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس ) أي : فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب ، وهو مغرب الأرض . وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له . وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب ، واختلاق زنادقتهم وكذبهم

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وجدها تغرب في عين حمئة ) أي : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه ، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه .

                                                                                                                                                                                                    والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من " الحمأة " وهو الطين ، كما قال تعالى : ( إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ) [ الحجر : 28 ] أي طين أملس . وقد تقدم بيانه .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب حدثني نافع بن أبي نعيم ، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول ( في عين حمئة ) ثم فسرها : ذات حمأة . قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء .

                                                                                                                                                                                                    وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وغير واحد .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار ، عن سعد بن أوس ، عن مصدع ، عن ابن [ ص: 192 ] عباس ، عن أبي بن كعب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ( حمئة )

                                                                                                                                                                                                    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " وجدها تغرب في عين حامية " يعني حارة . وكذا قال الحسن البصري .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب .

                                                                                                                                                                                                    قلت : ولا منافاة بين معنييهما ؛ إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و ( حمئة ) في ماء وطين أسود ، كما قال كعب الأحبار وغيره .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام ، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو ، عن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت ، فقال : " في نار الله الحامية [ في نار الله الحامية ] ، لولا ما يزعها من أمر الله ، لأحرقت ما على الأرض " .

                                                                                                                                                                                                    قلت : ورواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو ، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا محمد - يعني ابن بشر - حدثنا عمرو بن ميمون ، أنبأنا ابن حاضر ، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف " تغرب في عين حامية " قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا ( حمئة ) فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها : فقال عبد الله : كما قرأتها . قال ابن عباس : فقلت لمعاوية : في بيتي نزل القرآن ؟ فأرسل إلى كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ [ فقال له كعب : سل أهل العربية ، فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة ] في ماء وطين . وأشار بيده إلى المغرب . قال ابن حاضر : لو أني عندكما أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة . قال ابن عباس : وإذا ما هو ؟ قلت : فيما يؤثر من قول تبع ، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه :


                                                                                                                                                                                                    بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد     فرأى مغيب الشمس عند غروبها
                                                                                                                                                                                                    في عين ذي خلب وثأط حرمد



                                                                                                                                                                                                    قال ابن عباس : ما الخلب ؟ قلت : الطين بكلامهم . [ يعني بكلام حمير ] . قال : ما الثاط ؟ [ ص: 193 ] قلت : الحمأة . قال : فما الحرمد ؟ قلت : الأسود . قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل .

                                                                                                                                                                                                    وقال سعيد بن جبير : بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ : ( وجدها تغرب في عين حمئة ) فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس ، فإنا نجدها في التوراة : تغرب في مدرة سوداء .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف قال : في تفسير ابن جريج ( ووجد عندها قوما ) قال : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ووجد عندها قوما ) أي أمة من الأمم ، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) معنى هذا : أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم ، وأظفره بهم وخيره : إن شاء قتل وسبى ، وإن شاء من أو فدى . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه

                                                                                                                                                                                                    في قوله : ( أما من ظلم ) أي : من استمر على كفره وشركه بربه ( فسوف نعذبه ) قال قتادة : بالقتل : وقال السدي : كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا . وقال وهب بن منبه : كان يسلط الظلمة ، فتدخل أفواههم وبيوتهم ، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ) أي : شديدا بليغا وجيعا أليما . وفيه إثبات المعاد والجزاء .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وأما من آمن ) أي : تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ( فله جزاء الحسنى ) أي : في الدار الآخرة عند الله - عز وجل - ( وسنقول له من أمرنا يسرا ) قال مجاهد : معروفا .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية