الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ( 77 ) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ( 78 ) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ( 79 ) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( 80 ) ) .

                                                                                                                                                                                                    وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه . فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد ، فأعطيتك ، فأنزل الله : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) إلى قوله : ( ويأتينا فردا ) .

                                                                                                                                                                                                    أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما ، من غير وجه ، عن الأعمش به ، وفي لفظ البخاري : كنت قينا بمكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفا ، فجئت أتقاضاه . فذكر الحديث وقال : ( أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) قال : موثقا .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال خباب [ ص: 260 ] بن الأرت ، كنت قينا بمكة ، فكنت أعمل للعاص بن وائل ، قال : فاجتمعت لي عليه دراهم ، فجئت لأتقاضاه ، فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث . قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد . قال : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) إلى قوله : ( ويأتينا فردا ) .

                                                                                                                                                                                                    وقال العوفي عن ابن عباس : إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين ، فأتوه يتقاضونه ، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ، ومن كل الثمرات ؟ قالوا : بلى . قال : فإن موعدكم الآخرة ، فوالله لأوتين مالا وولدا ، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به . فضرب الله مثله في القرآن فقال ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا ) إلى قوله : ( ويأتينا فردا )

                                                                                                                                                                                                    وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهم : إنها نزلت في العاص بن وائل .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( لأوتين مالا وولدا ) قرأ بعضهم بفتح " الواو " من " ولدا " وقرأ آخرون بضمها ، وهو بمعناه ، قال رؤبة :


                                                                                                                                                                                                    الحمد لله العزيز فردا لم يتخذ من ولد شيء ولدا



                                                                                                                                                                                                    وقال الحارث بن حلزة :


                                                                                                                                                                                                    ولقد رأيت معاشرا     قد تمروا مالا وولدا



                                                                                                                                                                                                    وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                    فليت فلانا كان في بطن أمه     وليت فلانا كان ولد حمار



                                                                                                                                                                                                    وقيل : إن " الولد " بالضم جمع ، " والولد " بالفتح مفرد ، وهي لغة قيس ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( أطلع الغيب ) : إنكار على هذا القائل ، ( لأوتين مالا وولدا ) يعني : يوم القيامة ، أي : أعلم ما له في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك ، ( أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) : أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك ؟ وقد تقدم عند البخاري : أنه الموثق .

                                                                                                                                                                                                    وقال الضحاك ، عن ابن عباس : ( أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) قال : لا إله إلا الله ، فيرجو بها . وقال محمد بن كعب القرظي : ( أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، ثم قرأ : ( أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 261 ]

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( كلا ) : هي حرف ردع لما قبلها وتأكيد لما بعدها ، ( سنكتب ما يقول ) أي : من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما تمناه ، وكفره بالله العظيم ( ونمد له من العذاب مدا ) أي : في الدار الآخرة ، على قوله ذلك ، وكفره بالله في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                    ( ونرثه ما يقول ) أي : من مال وولد ، نسلبه منه ، عكس ما قال : إنه يؤتى في الدار الآخرة مالا وولدا ، زيادة على الذي له في الدنيا; بل في الآخرة يسلب من الذي كان له في الدنيا ، ولهذا قال : ( ويأتينا فردا ) أي : من المال والولد .

                                                                                                                                                                                                    قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ونرثه ما يقول ) ، قال : نرثه

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد : ( ونرثه ما يقول ) : ماله وولده ، وذلك الذي قال العاص بن وائل .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( ونرثه ما يقول ) قال : ما عنده ، وهو قوله : ( لأوتين مالا وولدا ) وفي حرف ابن مسعود : " ونرثه ما عنده " .

                                                                                                                                                                                                    وقال قتادة : ( ويأتينا فردا ) : لا مال له ، ولا ولد .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( ونرثه ما يقول ) قال : ما جمع من الدنيا ، وما عمل فيها ، قال : ( ويأتينا فردا ) قال : فردا من ذلك ، لا يتبعه قليل ولا كثير .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية