الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون .

قوله تعالى : أفمن زين له سوء عمله ( من ) في موضع رفع بالابتداء ، وخبره محذوف . قال الكسائي : والذي يدل عليه قوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فالمعنى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات . قال : وهذا كلام عربي طريف لا يعرفه إلا قليل . وذكره الزمخشري عن الزجاج . قال النحاس : والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية ، لما ذكره من الدلالة على المحذوف ، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم ، كما قال جل وعز : ( فلعلك باخع نفسك ) قال أهل التفسير : قاتل . قال نصر بن علي : سألت الأصمعي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن : هم أرق قلوبا وأبخع طاعة ما معنى أبخع ؟ فقال : أنصح . فقلت له : إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل : لعلك باخع نفسك : معناه قاتل نفسك . فقال : هو من ذاك بعينه ، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه . وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير ; مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء . وقيل : الجواب محذوف ; المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي ، ويكون يدل على هذا المحذوف ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) . وقرأ يزيد بن القعقاع : ( فلا تذهب نفسك ) ، وفي أفمن زين له سوء عمله [ ص: 292 ] أربعة أقوال ، أحدها : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ; قاله أبو قلابة . ويكون ( سوء عمله ) معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام . الثاني : أنهم الخوارج ; رواه عمر بن القاسم . فيكون ( سوء عمله ) تحريف التأويل . الثالث : الشيطان ; قاله الحسن . ويكون ( سوء عمله الإغواء ) . الرابع : كفار قريش ; قاله الكلبي . ويكون ( سوء عمله الشرك ) . وقال : إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب . وقال غيره : نزلت في أبي جهل بن هشام . فرآه حسنا أي صوابا ; قاله الكلبي . وقال : جميلا .

قلت : والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال ; لقوله تعالى : ليس عليك هداهم ، وقوله : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ، وقوله في هذه الآية : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون وهذا ظاهر بين ، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم ، فإن الله أضلهم . وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم ; أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه ، وإنما ذلك إلى الله لا إليك ، والذي إليك هو التبليغ . وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن : ( فلا تذهب ) بضم التاء وكسر الهاء ( نفسك ) نصبا على المفعول ، والمعنيان متقاربان . ( حسرات ) منصوب مفعول من أجله ; أي فلا تذهب نفسك للحسرات . و ( عليهم ) صلة تذهب ، كما تقول : هلك عليه حبا ومات عليه حزنا . وهو بيان للمتحسر عليه . ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات ; لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته . ويجوز أن يكون حالا كأن صارت ( حسرات ) لفرط التحسر ; كما قال جرير :


مشق الهواجر لحمهن مع السرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا



يريد : رجعن كلاكلا وصدورا ; أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها . ومنه قول الآخر :


فعلى إثرهم تساقط نفسي     حسرات وذكرهم لي سقام



أو مصدرا . إن الله عليم بما يصنعون .

التالي السابق


الخدمات العلمية