الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون

قوله تعالى : قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها . والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة ; مشتق من الجدل وهو شدة الفتل ; ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير ; وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام " بأشبع من هذا . وقرأ ابن عباس " فأكثرت جدلنا " ذكره النحاس . والجدل في الدين محمود ; ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق ، فمن قبله أنجح وأفلح ، ومن رده خاب وخسر . وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم ، وصاحبه في الدارين ملوم .

فأتنا بما تعدنا أي من العذاب .

إن كنت من الصادقين في قولك .

قوله تعالى : قال إنما يأتيكم به الله إن شاء أي إن أراد إهلاككم عذبكم .

وما أنتم بمعجزين أي بفائتين . وقيل : بغالبين بكثرتكم ; لأنهم أعجبوا بذلك ; كانوا ملئوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي .

قوله تعالى : ولا ينفعكم نصحي أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم .

إن أردت أن أنصح لكم أي لأنكم لا تقبلون نصحا ; وقد تقدم في " براءة " معنى النصح لغة .

إن كان الله يريد أن يغويكم أي يضلكم . وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن [ ص: 27 ] وافقهما ; إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي ، ولا يكفر الكافر ، ولا يغوي الغاوي ; وأن يفعل ذلك ، والله لا يريد ذلك ; فرد الله عليهم بقوله : إن كان الله يريد أن يغويكم . وقد مضى هذا المعنى في " الفاتحة " وغيرها . وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في الأعراف " في إغواء الله تعالى إياه حيث قال : فبما أغويتني ولا محيص لهم عن قول نوح - عليه السلام - : إن كان الله يريد أن يغويكم فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى ; إذ هو الهادي والمضل ; سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا . وقيل : أن يغويكم يهلككم ; لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك . الطبري : " يغويكم " يهلككم بعذابه ; حكي عن طيئ أصبح فلان غاويا أي مريضا ، وأغويته أهلكته ; ومنه فسوف يلقون غيا . .

هو ربكم فإليه الإغواء ، وإليه الهداية .

وإليه ترجعون تهديد ووعيد .

قوله تعالى : أم يقولون افتراه يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - . افترى افتعل ; أي اختلق القرآن من قبل نفسه ، وما أخبر به عن نوح وقومه ; قال مقاتل ، وقال ابن عباس : هو من محاورة نوح لقومه وهو أظهر ; لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه ; فالخطاب منهم ولهم .

قل إن افتريته أي اختلقته وافتعلته ، يعني الوحي والرسالة .

فعلي إجرامي أي عقاب إجرامي ، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي . والإجرام مصدر أجرم ; وهو اقتراف السيئة . وقيل المعنى : أي جزاء جرمي وكسبي . وجرم وأجرم بمعنى ; عن النحاس وغيره . قال :

طريد عشيرة ورهين جرم بما جرمت يدي وجنى لساني



ومن قرأ " أجرامي " بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم ; وذكره النحاس أيضا .

وأنا بريء مما تجرمون أي من الكفر والتكذيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية