الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الوضوء من لمس القبل

                                                                                                                                            252 - ( عن بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ } رواه الخمسة وصححه الترمذي . وقال البخاري : هو أصح شيء في هذا الباب ، وفي رواية لأحمد والنسائي عن بسرة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ ص: 249 ] { ويتوضأ من مس الذكر } ، وهذا يشمل ذكر نفسه وذكر غيره ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا مالك والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود قال أبو داود قلت لأحمد : حديث بسرة ليس بصحيح ، قال : بل هو صحيح ، وصححه الدارقطني ويحيى بن معين ، حكاه ابن عبد البر وأبو حامد بن الشرفي تلميذ مسلم ، والبيهقي والحازمي .

                                                                                                                                            قال البيهقي : هذا الحديث وإن لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة منها أو من مروان فقد احتجا بجميع رواته . وقال الإسماعيلي : يلزم البخاري إخراجه ، فقد أخرج نظيره وغاية ما قدح به في الحديث أنه حدث به مروان عروة ، فاستراب بذلك عروة فأرسل مروان إلى بسرة رجلا من حرسه ، فعاد إليه بأنها ذكرت ذلك ، والواسطة بين عروة وبسرة إما مروان وهو مطعون في عدالته ، أو حرسه وهو مجهول . والجواب أنه قد جزم ابن خزيمة وغير واحد من الأئمة بأن عروة سمعه من بسرة ، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان . قال عروة : فذهبت إلى بسرة فسألتها فصدقته ، وبمثل هذا أجاب الدارقطني وابن حبان ، قال الحافظ : وقد أكثر ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم من سياق طرقه ، وبسط الدارقطني الكلام عليه في نحو من كراستين ، ونقل البعض بأن ابن معين قال : ثلاثة أحاديث لا تصح : حديث مس الذكر ، ولا نكاح إلا بولي ، وكل مسكر حرام . قال الحافظ : ولا يعرف هذا عن ابن معين .

                                                                                                                                            قال ابن الجوزي : إن هذا لا يثبت عن ابن معين ، وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء بمسه . وروى عنه الميموني أنه قال : إنما يطعن في حديث بسرة من لا يذهب إليه ، وطعن فيه الطحاوي بأن هشاما لم يسمع من أبيه عروة ; لأنه رواه عنه الطبراني ، فوسط بينه وبين أبيه أبا بكر بن محمد بن عمرو ، وهذا مندفع ، فإنه قد رواه تارة عن أبيه ، وتارة عن أبي بكر بن محمد ، وصرح في رواية الحاكم بأن أباه حدثه . وقد رواه الجمهور من أصحاب هشام عنه عن أبيه فلعله سمعه عن أبي بكر عن أبيه ، ثم سمعه من أبيه ، فكان يحدث به تارة هكذا ، وتارة هكذا .

                                                                                                                                            وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وأم حبيبة وعبد الله بن عمرو وزيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص وعائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وعلي بن طلق والنعمان بن بشير وأنس وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة ، وأروى بنت أنيس ، أما حديث أبي هريرة وأم حبيبة وعبد الله بن عمرو فسيذكرها المصنف بعد هذا الحديث .

                                                                                                                                            وأما حديث جابر فعند الترمذي وابن ماجه والأثرم ، قال ابن عبد البر : إسناده صالح . وأما حديث زيد بن خالد فعند الترمذي وأحمد والبزار . وأما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه الحاكم . وأما حديث عائشة فذكره الترمذي ، وأعله أبو حاتم ، ورواه الدارقطني ، وأما حديث أم سلمة فذكره الحاكم .

                                                                                                                                            وأما [ ص: 250 ] حديث ابن عباس فرواه البيهقي وفي إسناده الضحاك بن حمزة وهو منكر الحديث . وأما حديث ابن عمر فرواه الدارقطني والبيهقي ، وفيه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف ، وأخرجه الحاكم من طريق عبد العزيز بن أبان وهو ضعيف . وأخرجه ابن عدي من طريق أيوب بن عتبة ، وفيه مقال .

                                                                                                                                            وأما حديث علي بن طلق فأخرجه الطبراني وصححه . وأما حديث النعمان بن بشير فذكره ابن منده ، وكذا حديث أنس وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة . وأما حديث أروى بنت أنيس فذكره الترمذي ورواه البيهقي .

                                                                                                                                            والحديث يدل على أن لمس الذكر ينقض الوضوء . وقد ذهب إلى ذلك عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وابن عباس وعائشة وسعد بن أبي وقاص وعطاء والزهري وابن المسيب ومجاهد وأبان بن عثمان وسليمان بن يسار والشافعي وأحمد وإسحاق ، ومالك في المشهور وغير هؤلاء .

                                                                                                                                            واحتجوا بحديث الباب . وكذلك مس فرج المرأة لحديث أم حبيبة الآتي ، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو الذي سيذكره المصنف في هذا الباب .

                                                                                                                                            وذهب علي عليه السلام وابن مسعود وعمار والحسن البصري وربيعة والعترة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وغيرهم إلى أنه غير ناقض . وقد ذكر الحازمي في الاعتبار جماعة من القائلين بهذه المقالة ، وجماعة من القائلين بالمقالة الأولى من الصحابة والتابعين لم نذكرهم هنا فليرجع إليه واحتج الآخرون بحديث طلق بن علي عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارقطني مرفوعا بلفظ : { الرجل يمس ذكره أعليه وضوء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنما هو بضعة منك } ، وصححه عمرو بن علي الفلاس وقال : هو عندنا أثبت من حديث بسرة .

                                                                                                                                            وروي عن علي بن المديني أنه قال : هو عندنا أحسن من حديث بسرة .

                                                                                                                                            قال الطحاوي : إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة ، وصححه أيضا ابن حبان والطبراني وابن حزم . وأجيب بأنه قد ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي ، وادعى فيه النسخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي ، وآخرون وأوضح ابن حبان وغيره ذلك .

                                                                                                                                            وقال البيهقي : يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته ، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته ، وقد أيدت دعوى النسخ بتأخر إسلام بسرة وتقدم إسلام طلق ، ولكن هذا ليس دليلا على النسخ عند المحققين من أئمة الأصول ، وأيد حديث بسرة أيضا بأن حديث طلق موافق لما كان الأمر عليه من قبل ، وحديث بسرة ناقل عنه فيصار إليه وبأنه أرجح لكثرة طرقه وصحتها ، وكثرة من صححه من الأئمة ولكثرة شواهده ، ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون ، وأيضا قد روي عن طلق بن علي نفسه أنه روى : { من مس فرجه فليتوضأ } أخرجه الطبراني وصححه ، قال : [ ص: 251 ] فيشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا ، ثم سمع هذا بعد : فوافق حديث بسرة ، وأيضا حديث طلق بن علي من رواية قيس ابنه .

                                                                                                                                            قال الشافعي : قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه . وقال أبو حاتم وأبو زرعة : قيس بن طلق ممن لا تقوم به حجة ا هـ . فالظاهر ما ذهب إليه الأولون ،

                                                                                                                                            وقد روي عن مالك القول بندب الوضوء ، ويرده ما سيأتي من التصريح بالوجوب في حديث أبي هريرة ، وفي حديث عائشة : { ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضئون } أخرجه الدارقطني وهو دعاء بالشر لا يكون إلى على ترك واجب ، والمراد بالوضوء غسل جميع الأعضاء كوضوء الصلاة ; لأنه الحقيقة الشرعية ، وهي مقدمة على غيرها على ما هو الحق في الأصول ، وقد اشترط في المس الناقض للوضوء أن يكون بغير حائل .

                                                                                                                                            ويدل له حديث أبي هريرة الآتي ، وسيأتي أنه لا دليل لمن اشترط أن يكون المس بباطن الكف ، وقد روي عن جابر بن زيد أنه قال بالنقض إن وقع المس عمدا إلا إن وقع سهوا . وأحاديث الباب ترده ورفع الخطإ بمعنى رفع إثمه لا حكمه .

                                                                                                                                            253 - ( وعن أم حبيبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من مس فرجه فليتوضأ } رواه ابن ماجه والأثرم وصححه أحمد وأبو زرعة ) . الحديث قال ابن السكن : لا أعلم له علة . ولفظ من يشمل الذكر والأنثى . ولفظ الفرج يشمل القبل والدبر من الرجل والمرأة ، وبه يرد مذهب من خصص ذلك بالرجال ، وهو مالك .

                                                                                                                                            وأخرج الدارقطني من حديث عائشة : { إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ } وفيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري وهو ضعيف ، وكذا ضعفه ابن حبان . قال الحافظ : وله شاهد ، وسيأتي حديث عمرو بن شعيب وهو صحيح . وقد تقدم الكلام في الذي قبله .

                                                                                                                                            254 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء } رواه أحمد ) . الحديث رواه ابن حبان في صحيحه ، وقال : حديث صحيح سنده عدول نقلته . وصححه الحاكم وابن عبد البر ، وأخرجه البيهقي والطبراني في الصغير ، وقال ابن السكن : هو أجود ما روي في هذا الباب . ورواه الشافعي والبزار والدارقطني من طريق يزيد بن [ ص: 252 ] عبد الملك ، قال النسائي : متروك ، وضعفه غيره .

                                                                                                                                            والحديث يدل على وجوب الوضوء ، وهو يرد مذهب من قال بالندب ، وقد تقدم . ويدل على اشتراط عدم الحائل بين اليد والذكر ، وقد استدل به الشافعية في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء . قال الحافظ في التلخيص : لكن نازع في دعوى أن الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف غير واحد ، قال ابن سيده في المحكم : أفضى فلان إلى فلان وصل إليه ، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها . وقال ابن حزم : الإفضاء يكون بظاهر الكف كما يكون بباطنها ، قال : ولا دليل على ما قالوه - يعني من التخصيص بالباطن - من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي صحيح . قال المصنف رحمه الله تعالى - وهو يعني حديث أبي هريرة - يمنع تأويل غيره على الاستحباب ، ويثبت بعمومه النقض ببطن الكف وظهره ، وينفيه بمفهومه من وراء حائل وبغير اليد .

                                                                                                                                            وفي لفظ للشافعي { : أذا أفضى أحدكم إلى ذكره ليس بينها وبينه شيء فليتوضأ } ا هـ .

                                                                                                                                            255 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أيما رجل مس فرجه فليتوضأ ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ } . رواه أحمد ) . الحديث رواه الترمذي أيضا ورواه البيهقي قال الترمذي في العلل عن البخاري : وهذا عندي صحيح ، وفي إسناده بقية بن الوليد ، ولكنه قال : حدثني محمد بن الوليد الزبيدي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . والحديث صريح في عدم الفرق بين الرجل والمرأة ، وقد عرفت أن الفرج يعم القبل والدبر ; لأنه العورة كما في القاموس .

                                                                                                                                            وقد أهمل المصنف ذكر حديث طلق بن علي في هذا الباب ، ولم تجر له عادة بذلك فإنه يذكر الأحاديث المتعارضة وإن كان في بعضها ضعف ، وقد ذكرناه في شرح حديث أول الباب ، وتكلمنا عليه بما فيه كفاية .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية