الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

وأما التقدير السادس - وهو أنها تتحلل كما يتحلل المحصر - فهذا أفقه من التقدير [ ص: 23 ] الذي قبله ; فإن هذه منعها خوف المقام إتمام النسك ، فهي كمن منعها عدو عن الطواف بالبيت بعد التعريف ، ولكن هذا التقدير ضعيف ، فإن الإحصار أمر عارض للحاج بمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج ، وهذه متمكنة من البيت ومن الحج من غير عدو ولا مرض ولا ذهاب نفقة ، وإذا جعلت هذه كالمحصر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها ، والعذر الموجب بالإحصار إذا كان قائما به منع من فرض الحج بنداء كإحاطة العدو بالبيت وتعذر النفقة ، وهذه عذرها لا يسقط فرض الحج علي ابتداء ; فلا يكون عروضه موجبا للتحلل كالإحصار ; فلازم هذا التقدير أنها إذا علمت أن هذا العذر يصيبها أو غلب على ظنها أن يسقط عنها فرض الحج فهو رجوع إلى التقدير الرابع

فصل

وأما التقدير السابع - وهو أن يقال : يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها إذا خافت الحيض ، وتكون كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه فما أحسنه من تقدير لو عرف به قائل ; فإن هذه عاجزة عن إتمام نسكها ، ولكن هو باطل أيضا ; فإن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي يكون آيسا من زوال عذره ، فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض والحبس لم يكن له أن يستنيب ، وهذه لا تيأس من زوال عذرها ; لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم أو أن دمها ينقطع قبل سن اليأس لعارض يفعلها أو يغير فعلها ; فليست كالمعضوب حقيقة ولا حكما .

فصل

فإذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن ، وهو أن يقال : تطوف بالبيت والحالة هذه ، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة ، بل يوافق كما تقدم ; إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ، ولا واجب في الشريعة مع عجز ، ولا حرام مع ضرورة .

فإن قيل : في ذلك محذوران ; أحدهما : دخول الحائض المسجد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا أحل المسجد لحائض ولا جنب } فكيف بأفضل المساجد ؟

الثاني : طوافها في حال الحيض وقد منعها الشارع منه كما منعها من الصلاة ، فقال : { اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } فالذي منعها من الصلاة مع الحيض هو الذي منعها من الطواف معه .

فالجواب عن الأول من أربعة أوجه : [ ص: 24 ] أحدها : أن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب ; فإنها لو خافت العدو أو من يستكرهها عن الفاحشة أو أخذ مالها ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض ، وهذه تخاف ما هو قريب من ذلك ; فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يؤخذ مالها إن كان لها مال ، وإلا أقامت بغربة ضرورة ، وقد تخاف في إقامتها ممن يتعرض لها ، وليس لها من يدفع عنها .

الجواب الثاني : أن طوافها بمنزلة مرورها في المسجد ، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث ، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر ; فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز .

يوضحه الوجه الثالث : أن دم الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة ، والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقا ، وذلك لأجل الحاجة ، وحاجة هذه أولى .

يوضحه الوجه الرابع : أن منعها من دخول المسجد للطواف كمنع الجنب ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهما في تحريم المسجد عليهما ، وكلاهما يجوز له الدخول عند الحاجة وسر المسألة أن قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا تطوفي بالبيت } هل ذلك لأن الحائض ممنوعة من المسجد والطواف لا يكون إلا في المسجد ، أو أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة ، أو لمجموع الأمرين ، أو لكل واحد من الأمرين ؟ فهذه أربعة تقادير ، فإن قيل بالمعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أبو حنيفة ومن وافقه وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد ، وعلى هذا فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة ، ويقيد بها مطلق نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بأول مطلق قيد بأصول الشريعة وقواعدها ، وإن قيل بالمعنى الثاني فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف ، فإذا عجزت عنها سقط اشتراطها كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها كما تصلي بغير طهور .

فصل

وأما المحذور الثاني - وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة - فجوابه من وجوه ; أحدها : أن يقال : لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وستر العورة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا يطوف بالبيت عريان } وقال الله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ ص: 25 ] وفي السنن مرفوعا وموقوفا { الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير } ولا ريب أن وجوب الطهارة وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف ; فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق ، وكذلك صلاة العريان ، وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهي عنه في هذا الحال ، بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته ، فإن واجبات الحج إذا تركها عمدا لم يبطل حجه ، وواجبات الصلاة إذا تركها عمدا بطلت صلاته ، وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدا لم تصح ، ولو طاف ستة أشواط صح ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره ، ولو نكس الصلاة لم تصح ، ولو نكس الطواف ففيه خلاف ، ولو صلى محدثا لم تصح صلاته ، ولو طاف محدثا أو جنبا صح في أحد القولين ، وغاية الطواف أن يشبه بالصلاة .

وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة من طافت عريانة للضرورة ; فإن نهي الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد ، بل الستارة في الطواف آكد من وجوه ; أحدها : أن طواف العريان منهي عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهي عنه بالسنة وحدها ; الثاني أن كشف العورة حرام في الطواف وخارجه ; الثالث : أن طواف العريان أقبح شرعا وعقلا وفطرة من طواف الحائض والجنب ; فإذا صح طوافها مع العري للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحرى ، ولا يقال " فيلزمكم على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة " لأنا نقول : هذا سؤال فاسد ; فإن الحاجة لا تدعوها إلى ذلك بوجه من الوجوه ، وقد جعل الله سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها ، وهذه لا يمكنها [ أن ] تتعوض في حال طهرها بغير البيت ، وهذا يبين سر المسألة وفقهها ، وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين : قسم يمكنها التعوض عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض ، بل أسقطه إما مطلقا كالصلاة وإما إلى بدله زمن الطهر كالصوم . وقسم لا يمكن التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه ، ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض ; إذ لا يمكنها التعوض عنها زمن الطهر ; لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره ، فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها ، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها ، وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي .

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن ، وحديث { لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن } لم يصح ; فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث ، فإنه من [ ص: 26 ] رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر .

قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير ، كأنه يضعف روايته عنهم فيما ينفرد به ، وقال : إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام ، انتهى .

وقال البخاري أيضا : إذا حدث عن أهل بلده فصحيح ، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر ، وقال علي بن المديني : ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام ، ولكنه خلط في حديث أهل العراق ، وحدثنا عنه عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه ; فإسماعيل عندي ضعيف ، وقال عبد الله بن أحمد : عرضت على أبي حديثا حدثناه الفضل بن زياد الضبي حدثنا ابن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعا { لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن } فقال أبي : هذا باطل ، يعني أن إسماعيل وهم .

وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب ، والفرق الصحيح بينها وبين الجنب مانع من الإلحاق ، وذلك من وجوه ; أحدها : أن الجنب يمكنه التطهر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض ، والثاني : أن الحائض يشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب ، الثالث : أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلى بخلاف الجنب .

وقد تنازع من حرم عليها القراءة : هل يباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ؟ على ثلاثه أقوال ; أحدها : المنع مطلقا وهو المشهور من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ; لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجنب ; الثاني : الجواز مطلقا وهو اختيار القاضي أبي يعلى ، قال : وهو ظاهر كلام أحمد ; والثالث : إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض ، وهو اختيار الخلال ; فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد ، فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحرى

فصل

هذا إذا كان المنع من طوافها لأجل المنع من دخول المسجد أو لأجل الحيض ومنافاته للطواف ، فإن قيل بالتقدير الثالث وهو أنه لمجموع الأمرين بحيث إذا انفرد [ ص: 27 ] أحدهما لم يستقل بالتحريم ، أو بالتقدير الرابع وهو أن كلا منهما علة مستقلة كان الكلام على هذين التقديرين كالكلام على التقديرين الأولين ، وبالجملة فلا يمتنع تخصيص العلة لفوات شرط أو لقيام مانع ، وسواء قيل : إن وجود الشرط وعدم المانع من أجزاء العلة أو هو أمر خارج عنها ; فالنزاع لفظي فإن أريد بالعلة التامة فهما من أجزائها ، وإن أريد منها المقتضية كانا خارجين عنها .

فإن قيل : الطواف كالصلاة ، ولهذا تشترط له الطهارة من الحدث ، وقد أشار إلى هذا بقوله في الحديث { الطواف بالبيت صلاة } والصلاة لا تشرع ولا تصح مع الحيض ، فهكذا شقيقها ومشبهها ، لأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة ، وعكسه الوقوف بعرفة وتوابعه .

فالجواب أن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع ، بل فيه النزاع قديما وحديثا ; فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك ، وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه .

قال أبو بكر في الشافي : باب في الطواف بالبيت غير طاهر ، قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب : لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرا ، والتطوع أيسر ، ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرا ، وقال في رواية محمد بن الحكم : إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه ، واختار له أن يطوف وهو طاهر ، وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنبا ناسيا صح طوافه ولا دم عليه ، وعنه رواية أخرى عليه دم وثالثة أنه لا يجزيه الطواف .

وقد ظن بعض أصحابه أن هذا الخلاف عنه إنما هو في المحدث والجنب ، فأما الحائض فلا يصح طوافها قولا واحدا ; قال شيخنا : وليس كذلك ، بل صرح غير واحد من أصحابنا بأن الخلاف عنه في الحيض والجنابة .

قال : وكلام أحمد يدل على ذلك ، ويبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب ، قال عبد الملك الميموني في مسائله : قلت لأحمد : من طاف طواف الواجب على غير وضوء وهو ناس ثم واقع أهله ، قال : أخبرك مسألة فيها وهم مختلفون ، وذكر قول عطاء والحسن ، قلت : ما تقول أنت ؟ قال : دعها ، أو كلمة تشبهها .

وقال الميموني في مسائله أيضا : قلت له : من سعى وطاف على غير طهارة ثم واقع أهله ، فقال لي : مسألة الناس فيها مختلفون ، وذكر قول ابن عمر ، وما يقول عطاء مما يسهل فيها ، وما يقول الحسن ، وأن عائشة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم حين حاضت { افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } ثم قال لي : إلا أن هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها ، قلت : فمن الناس من يقول عليها الحج من قابل ، فقال لي : نعم كذا أكبر علمي ، قلت : ومنهم من يذهب إلى أن عليها دما ، [ ص: 28 ] فذكر تسهيل عطاء فيها خاصة ، وقال لي أبو عبد الله أولا وآخرا : هي مسألة مشتبهة فيها موضع نظر ، فدعني حتى أنظر فيها ، قال ذلك غير مرة ، ومن الناس من يقول : وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف ، قلت : والنسيان ، قال : النسيان أهون حكما بكثير ، يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا ، هذا لفظ الميموني قلت : وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن امرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها ، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطا في صحة الطواف ، وقد قال إسماعيل بن منصور : ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال : حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين ، فحاضت في الطواف ، فأتمت بها عائشة بقية طوافها هذا ، والناس إنما تلقوا منع الحائض من الطواف من حديث عائشة ، وقد دلت أحكام الشريعة على أن الحائض أولى بالعذر ، وتحصيل مصلحة العبادة التي تفوتها إذا تركتها مع الحيض من الجنب ، وهكذا إذا حاضت في صوم شهري التتابع لم ينقطع تتابعها بالاتفاق ، وكذلك تقضي المناسك كلها من أولها إلى آخرها مع الحيض بلا كراهة بالاتفاق سوى الطواف ; وكذلك تشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة ، بالنص . وكذلك تقرأ القرآن إما مطلقا وإما عند خوف النسيان ; وإذا حاضت وهي معتكفة لم يبطل اعتكافها بل تتمه في رحبة المسجد .

وسر المسألة ما أشار إليه صاحب الشرع بقوله : { إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم } وكذلك قال الإمام أحمد : هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها ، والشريعة قد فرقت بينها وبين الجنب كما ذكرناه ; فهي أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسيا أو ذاكرا ; فإذا كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه ; فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها ، فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان ، فإن الناسي لما أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره ، بخلاف العاجز عن الشرط والركن فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قدر عليه ; فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه ، كما قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وهذه لا تستطيع إلا هذا ، وقد اتقت الله ما استطاعت ; فليس عليها غير ذلك بالنص وقواعد الشريعة ، والمطلق يقيد بدون هذا بكثير ، ونصوص أحمد وغيره من العلماء صريحة في أن الطواف ليس كالصلاة في اشتراط الطهارة ، وقد ذكرنا نصه في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فلا شيء عليه ، وأختار له أن يطوف وهو طاهر ، وإن وطئ فحجه ماض ولا شيء عليه ، وقد تقدم قول عطاء ، ومذهب أبي حنيفة صحة الطواف بلا طهارة [ ص: 29 ]

وأيضا فإن الفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع ، فإنه يباح فيه الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير ، وليس فيه تحريم ولا تحليل ولا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا تشهد ، ولا تجب له جماعة ، وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة ، وخصوص كونه متعلقا بالبيت ، وهذا لا يعطيه شروط الصلاة كما لا يعطيه واجباتها وأركانها .

وأيضا فيقال : لا نسلم أن العلة في الأصل كونها عبادة متعلقة بالبيت ولم يذكروا على ذلك حجة واحدة ، والقياس الصحيح ما تبين فيه أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم في الأصل أو دليل العلة ; فالأول قياس العلة ، والثاني قياس الدلالة .

وأيضا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة ، سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق ، ولهذا وجبت النافلة في السفر إلى غير القبلة ، ووجبت حين كانت مشروعة إلى بيت المقدس ، ووجبت لصلاة الخوف إذا لم يمكن الاستقبال .

وأيضا فهذا القياس ينتقض بالنظر إلى البيت ; فإنه عبادة متعلقة بالبيت ، وأيضا فهذا قياس معارض بمثله ، وهو أن يقال : عبادة من شرطها المسجد ، فلم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف ، وقد قال الله تعالى : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } وليس إلحاق الطائفين بالركع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين ، بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه ; فإن المسجد شرط في كل منهما بخلاف الركع السجود .

فإن قيل : الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف ، والصلاة لا تكون إلا بطهارة .

قيل : وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع ، وإذا قيل بوجوبهما لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف ، وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة ، ولو خطب محدثا ثم توضأ وصلى الجمعة جاز ; فجواز طوافه محدثا ثم يتوضأ ويصلي ركعتي الطواف أولى بالجواز ، وقد نص أحمد على أنه إذا خطب جنبا جاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية