الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( السادس ) من مسالك العلة ( الدوران ) وسماه الآمدي وابن الحاجب : الطرد والعكس لكونه بمعناه ( وهو ترتب حكم على وصف وجودا وعدما ) ثم الدوران إما في محل واحد ، كالإسكار في العصير . فإن العصير قبل أن يوجد الإسكار كان حلالا ، فلما حدث الإسكار حرم ، فلما زال الإسكار وصار خلا صار حلالا ، فدار التحريم مع الإسكار وجودا وعدما ، وإما في محلين ، كالطعم مع تحريم الربا فإنه لما وجد الطعم في التفاح كان ربويا ، ولما لم يوجد في الحرير مثلا لم يكن ربويا ، فدار جريان الربا مع الطعم ، وهذا المثال : إنما يجري على قول من يقول : إن علة الربا الطعم .

قال الطوفي : لكن الدوران في صورة أقوى منه في صورتين ، على ما هو مدرك [ ص: 530 ] ضرورة ، أو نظرا ظاهرا ( ويفيد ) الدوران ( العلة ظنا ) عند الأكثر من أصحابنا ، والمالكية والشافعية وغيرهم ، وقيل : إنه يفيد العلة قطعا وعليه بعض المعتزلة . وقيل : ولعل من يدعي القطع إنما هو من يشترط ظهور المناسبة في قياس العلل مطلقا . ولا يكتفي بالسبر ولا بالدوران بمجرده ، فإذا انضم الدوران إلى المناسبة ارتقى بهذه الزيادة إلى اليقين ، وقيل : إنه لا يفيد بمجرده العلة قطعا ولا ظنا ، واستدل للأول - الذي هو الصحيح ، بأنه لو دعي رجل باسم فغضب ، وبغيره لم يغضب ، وتكرر ذلك منه ، ولا مانع : دل أنه سبب الغضب ( و ) حيث تقرر أن الدوران يفيد العلة ظنا ( لا يلزم المستدل نفي ما هو أولى منه ) أي مما أبدأه علة ; لأنه لو لزمه ذلك للزم نفي سائر القوادح ، وينتشر البحث ، ويخرج الكلام عن الضبط ، ومن ادعى وصفا آخر لزمه إبداؤه . أطبق على ذلك الجدليون ، وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يلزمه ذلك . قال الغزالي : وهو بعيد في حق المناظر ، متجه في حق المجتهد ، فإن عليه تمام النظر ; لتحل له الفتوى ( فإن أبدى المعترض وصفا آخر ) أي غير ما أبداه المستدل ، فإن كان ما أبداه المعترض قاصرا ( ترجح جانب المستدل بالتعدية ) أي بكون وصفه متعديا .

وهذا بناء على ترجيح المتعدية على القاصرة ( فإن تعدى إلى الفرع ) المتنازع فيه بني على جواز التعليل بعلتين ، و ( لم يضر ) إلا عند مانع علتين ( وإن تعدى ) ما أبداه المعترض ( إلى فرع آخر ) أي غير المتنازع فيه ( طلب الترجيح ) أي ترجيح أحد الوصفين على الآخر ، بدليل خارجي ، فلو كان وصف المستدل غير مناسب ، ووصف المعترض مناسبا : قدم قطعا .

( والطرد : مقارنة الحكم للوصف بلا مناسبة ) لا بالذات ولا بالتبع ، مثاله في قول بعضهم ، في إزالة النجاسة بالخل ونحوه : الخل مائع لا يبنى على جنسه القناطر ، ولا يصاد منه السمك ، ولا تجري فيه السفن ، أو لا ينبت فيه القصب ، أو لا تعوم فيه الجواميس ، أو لا يزرع عليه الزرع ونحو ذلك ، فلا تزال به النجاسة . كالدهن ، وقول بعضهم في مس الذكر طويل ممشوق .

فلا يجب بمسه الوضوء كالبوق ، وقول بعضهم في طهارة الكلب : حيوان مألوف له [ ص: 531 ] شعر كالصوف ، فكان طاهرا كالخروف .

واعلم أن للمقارنة ثلاثة أحوال . أحدها : أن تكون في جميع الصور وعليه جرى جمع ، منهم صاحب جمع الجوامع فيه ، ويشعر به كلام جماعة أيضا ، حيث قالوا : إنه وجود الحكم عند وجود الوصف . الثانية : المقارنة فيما سوى صورة النزاع ، وهو الذي عزاه في المحصول للأكثرين . وجرى عليه البيضاوي ، فيثبت حينئذ الحكم في صورة النزاع إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب . فإن الاستقراء يدل على إلحاق النادر بالغالب ، وهذا ضعيف ; لأنه ليس كل نادر يلحق بالغالب لما يرد عليه من النقوض . وأيضا فلا يلزم من علية الاقتران كونه علة للحكم .

الثالثة : المقارنة في صورة واحدة ، وهو ضعيف جدا . لأن مستند القائل بالطرد : غلبة الظن عند التكرر ، والفرض عدمه ( وليس ) الطرد ( دليلا وحده ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم ; لأنه لا يفيد علما ولا ظنا فهو تحكم .

قال ابن السمعاني وغيره : قياس المعنى تحقيق والشبه : تقريب ، والطرد : تحكم وبالغ الباقلاني فقال : من طرد عن غرر فجاهل . ومن مارس الشريعة واستجازه فهازئ بالشريعة . وقيل : إنه حجة مطلقا ، وتكفي المقارنة ولو في صورة واحدة وهو ضعيف جدا ( وتنقسم العلة ) سواء كانت ( عقلية أو شرعية إلى ما تؤثر في معلولها كوجود علة الأصل في الفرع ) مؤثر في نقل حكمه ( وإلى ما يؤثر فيها معلولها كالدوران ) المتقدم ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية