الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : والأرض باليبس وذهاب الأثر للصلاة لا للتيمم ) أي تطهر الأرض المتنجسة بالجفاف إذا ذهب أثر النجاسة فتجوز الصلاة عليها ولا يجوز التيمم منها لأثر عائشة ومحمد بن الحنفية زكاة الأرض يبسها أي طهارتها ، وإنما لم يجز التيمم منها ; لأن الصعيد علم قبل التنجس طاهرا وطهورا وبالتنجس علم زوال الوصفين ، ثم ثبت بالجفاف شرعا أحدهما أعني الطهارة فيبقى الآخر على ما علم من زواله وإذا لم يكن طهورا لا يتيمم به وهذا أولى مما ذكره الشارحون في الفرق بأن طهارة المكان ثبتت بدلالة النص التي خص منها حالة غير الصلاة والنجاسة القليلة والعام المخصوص من الحجج المجوزة كخبر الواحد فجاز تخصيصه بالأثر بخلاف قوله تعالى { فتيمموا } فإنه من الحجج الموجبة التي لم يدخله تخصيص فإن المصنف في الكافي قال بعده ولي فيه أشكال ; لأن النص لا عموم له في الأحوال ; لأنها غير داخلة تحت النص ، وإنما تثبت ضرورة والتخصيص يستدعي سبق التعميم ولأن الطيب يحتمل الطاهر والمنبت وعلى الثاني حمله أبو يوسف والشافعي ولا يجوز أن يكونا مرادين ; لأن المشترك لا عموم له فيكون مؤولا وهو من الحجج المجوزة كالعام المخصوص قيد بالأرض احترازا عن الثوب والحصير والبدن وغير ذلك فإنها لا تطهر بالجفاف مطلقا ويشارك الأرض في حكمها كل ما كان ثابتا فيها كالحيطان والأشجار والكلأ والقصب وغيره ما دام قائما عليها فيطهر بالجفاف وهو المختار ، كذا في الخلاصة ، فإن قطع الخشب والقصب وأصابته نجاسة فإنه لا يطهر إلا بالغسل ويدخل في القصب الخص بضم الخاء المعجمة وبالصاد المهملة البيت من القصب والمراد به هنا السترة التي تكون على السطوح من القصب ، كذا في شرح الوقاية وكذا الجص بالجيم كما في الخلاصة حكمه حكم الأرض بخلاف اللبن الموضوع على الأرض

                                                                                        وأما الحجر فذكر الخجندي أنه لا يطهر بالجفاف وقال الصيرفي إن كان الحجر أملس فلا بد من الغسل ، وإن كان تشرب النجاسة كحجر الرحا فهو كالأرض والحصى بمنزلة الأرض ، وأما اللبن والآجر ، فإن كانا موضوعين ينقلان ويحولان فإنهما لا يطهران بالجفاف ; لأنهما ليسا بأرض ، وإن كان اللبن مفروشا فجف قبل إن يقلع طهر بمنزلة الحيطان ، وفي النهاية إن كانت الآجرة مفروشة في الأرض فحكمها حكم الأرض ، وإن كانت موضوعة تنقل وتحول ، فإن كانت النجاسة على الجانب الذي يلي الأرض جازت الصلاة عليها ، وإن كانت النجاسة على الجانب الذي قام عليه المصلي لا تجوز صلاته ، كذا في السراج الوهاج وإذا [ ص: 238 ] رفع الآجر عن الفرش هل يعود نجسا ؟ فيه روايتان ، كذا في البزازية وسيأتي بيان الصحيح في نظائره وأطلق في اليبس ولم يقيده بالشمس كما قيده القدوري ; لأن التقييد به مبني على العادة وإلا فلا فرق بين الجفاف بالشمس والنار والريح والظل وقيد باليبس ; لأن النجاسة لو كانت رطبة لا تطهر إلا بالغسل

                                                                                        فإن كانت رخوة تتشرب الماء كلما صب عليها فإنه يصب عليها الماء حتى يغلب على ظنه أنها طهرت ولا توقيت في ذلك وعن أبي يوسف يصب بحيث لو كانت هذه النجاسة في الثوب طهر واستحسن هذا صاحب الذخيرة ، وإن كانت صلبة إن كانت منحدرة حفر في أسفلها حفيرة وصب عليها الماء فإذا اجتمع في تلك الحفيرة كبسها أعني الحفيرة التي فيها الغسالة ، وإن كانت صلبة مستوية فلا يمكن الغسل بل يحفر ليجعل أعلاه في أسفله وأسفله في أعلاه ، وإن كانت الأرض مجصصة قال في الواقعات يصب عليها الماء ، ثم يدلكها وينشفها بخرقة أو صوفة ثلاثا فتطهر جعل ذلك بمنزلة غسل الثوب في الإجانة والتنشيف بمنزلة العصر ، فإن لم يفعل ذلك ولكن صب عليها الماء كثيرا حتى زالت النجاسة ولم يوجد لها لون ولا ريح ، ثم تركها حتى نشفت طهرت ، كذا في السراج الوهاج والخلاصة والمحيط وقيد بذهاب الأثر الذي هو الطعم واللون والريح ; لأنها لو جفت وذهب أثرها بالرؤية وكان إذا وضع أنفه شم الرائحة لم تجز الصلاة على مكانها ، كذا في السراج الوهاج وفي الفتاوى إذا احترقت الأرض بالنار فتيمم بذلك التراب قيل يجوز التيمم وقيل لا يجوز والأصح الجواز

                                                                                        ثم اعلم أن ما حكم بطهارته بمطهر غير المائعات إذا أصابه ماء هل يعود نجسا فذكر الشارح الزيلعي أن فيها روايتين وأن أظهرهما أن النجاسة تعود بناء على أن النجاسة قلت ولم تزل وحكى خمس مسائل المني إذا فرك والخف إذا دلك والأرض إذا جفت مع ذهاب الأثر وجلد الميتة إذا دبغ دباغا حكميا بالتتريب والتشميس والبئر إذا غار ماؤها ، ثم عاد ، وقد اختلف التصحيح في بعضها ولا بأس بسوق عباراتهم ، فأما مسألة المني فقال قاضي خان في فتاويه والصحيح أنه يعود نجسا وفي الخلاصة المختار أنه لا يعود نجسا ، وأما مسألة الخف فقال في الخلاصة هو كالمني في الثوب يعني المختار عدم العود وقال الحدادي في السراج الوهاج الصحيح أنه يعود نجسا ، وأما مسألة الأرض فقال قاضي خان في فتاويه الصحيح أنها لا تعود نجسة وقال في المجتبى الصحيح عدم عود النجاسة وفي الخلاصة بعدما ذكر أن المختار عدم نجاسة الثوب من المني إذا أصابه الماء بعد الفرك قال وكذا الأرض على الرواية المشهورة

                                                                                        وأما مسألة جلد الميتة إذا دبغ ، ثم أصابه الماء فأفاد الشارح أنها على الروايتين لكن المتون مجمعة على الطهارة بالدباغ فإنهم يقولون كل إهاب دبغ فقد طهر وهو يقتضي عدم عودها ، وأما مسألة البئر إذا غار ماؤها ، ثم عاد ففي الخلاصة لا تعود نجسة وعزاه إلى الأصل ويزاد على هذه الخمسة الآجرة المفروشة إذا تنجست فجفت ، ثم قلعت فعلى الروايتين وفي الخلاصة المختار عدم العود ويزاد السكين إذا مسحت فعلى الروايتين وقال السراج الوهاج اختار القدوري عود النجاسة واختار الإسبيجابي عدم العود وفي المحيط الأرض إذا أصابتها النجاسة فيبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء والمني إذا فرك والخف إذا دلك والجب إذا غار ماؤها ، ثم عاد فيه روايتان في رواية يعود نجسا وهو الأصح . ا هـ .

                                                                                        فالحاصل أن التصحيح والاختيار قد اختلف في كل مسألة منها كما ترى فالأولى اعتبار الطهارة في الكل كما يفيده أصحاب المتون حيث صرحوا بالطهارة في كل وملاقاة الماء الطاهر للطاهر لا توجب التنجس ، وقد اختاره في فتح القدير فإن من قال بالعود بناه على أن النجاسة لم تزل وإنما قلت ولا يرد المستنجي بالحجر ونحوه إذا دخل في الماء القليل فإنهم قالوا بأنه ينجسه ; لأن غير المائع لم يعتبر مطهرا في البدن إلا في المني [ ص: 239 ] وجواز الاستنجاء بغير المائعات إنما هو لسقوط ذلك المقدار عفوا لا لطهارة المحل فعنه أخذوا كون قدر الدرهم في النجاسات عفوا على أن المختار طهارته أيضا كما سنبينه في آخر الباب ، ثم اعلم أنه قد ظهر إلى هنا أن التطهير يكون بأربعة أمور بالغسل والدلك والجفاف والمسح في الصقيل دون ماء والفرك يدخل في الدلك والخامس مسح المحاجم بالماء بالخرق كما قدمناه والسادس النار كما قدمناه في الأرض إذا احترقت بالنار والسابع انقلاب العين ، فإن كان في الخمر فلا خلاف في الطهارة ، وإن كان في غيره كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل والسرقين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد خلافا لأبي يوسف وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد

                                                                                        وفي الخلاصة وعليه الفتوى وفي فتح القدير أنه المختار ; لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل فإن الملح غير العظم واللحم فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح ونظيره في الشرع النطفة نجسة وتصير علقة وهي نجسة وتصير مضغة فتطهر والعصير طاهر فيصير خمرا فينجس ويصير خلا فيطهر فعرفنا أن استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتب عليها وعلى قول محمد فرعوا الحكم بطهارة صابون صنع من زيت نجس ا هـ .

                                                                                        وفي المجتبى جعل الدهن النجس في صابون يفتى بطهارته ; لأنه تغير والتغيير يطهر عند محمد ويفتى به للبلوى وفي الظهيرية ورماد السرقين طاهر عند أبي يوسف خلافا لمحمد والفتوى على قول أبي يوسف وهو عكس الخلاف المنقول فإنه يقتضي أن الرماد طاهر عند محمد نجس عند أبي يوسف كما لا يخفى وفيها أيضا العذرات إذا دفنت في موضع حتى صارت ترابا قيل تطهر كالحمار الميت إذا وقع في المملحة فصار ملحا يطهر عند محمد وفي الخلاصة فارة وقعت في دن خمر فصار خلا يطهر إذا رمى بالفأرة قبل التخلل وإن تفسخت الفأرة فيها لا يباح ، ولو وقعت الفأرة في العصير ثم تخمر العصير ثم تخلل وهو لا يكون بمنزلة ما لو وقعت في الخمر هو المختار وكذا لو ولغ الكلب في العصير ، ثم تخمر ، ثم تخلل لا يطهر ا هـ .

                                                                                        وفي الظهيرية إذا صب الماء في الخمر ، ثم صارت الخمر خلا تطهر وهو الصحيح وأدخل في فتح القدير التطهير بالنار في الاستحالة ولا ملازمة بينهما فإنه لو أحرق موضع الدم من رأس الشاة والتنور إذا رش بماء نجس لا بأس بالخبز فيه ، كذا في المجتبى وكذا الطين النجس إذا جعل منه الكوز أو القدر وجعل في النار يكون طاهرا ، كذا في السراج الوهاج والثامن الدباغ وقد مر ، والتاسع الذكاة فكل حيوان يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة كما قدمناه والعاشر النزح في الآبار كما بيناه فظهر بهذا أن المطهرات عشرة كما ذكره في المجتبى ناقلا عن صلاة الجلابي .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : فإن المصنف في الكافي قال بعده إلخ ) قال في الكفاية ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد بالعموم الإطلاق وأنه يثبت الحكم في جميع الأفراد أيضا وكذا المراد بالتخصيص التقييد يعني ما لا يمكن الاحتراز عنه عند الشافعي وأكثر من قدر الدرهم عندنا فيكون مؤولا فيعارضه خبر الواحد والجواب أن الطهارة شرط بالإجماع وقوله وعلى الثاني حمله أبو يوسف والشافعي قلنا نعم لكن مع اشتراطهما الطهارة فيه فيكون قطعيا فلا يعارضه خبر الواحد . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : والحصى بمنزلة الأرض ) قال في التتارخانية يريد به إذا كان الحصى في الأرض فأما إذا كان على وجه الأرض لا يطهر . ا هـ .

                                                                                        [ ص: 238 ] وفي منية المصلي الحصى إذا تنجست وجفت وذهب أثرها لا يطهر أيضا إلا إذا كان متداخلا في الأرض . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : ثم تركها حتى نشفت طهرت ) قال في الذخيرة بعد ذلك وعن الحسن بن أبي مطيع قال لو أن أرضا أصابها نجاسة فصب عليها الماء فجرى عليها إلى أن أخذت قدر ذراع من الأرض طهرت الأرض والماء طاهر ويكون ذلك بمنزلة الماء الجاري وفي المنتقى أرض أصابها بول أو عذرة ، ثم أصابها المطر غالبا ، وقد جرى ماؤه عليها فذلك مطهر لها وإن كان المطر قليلا لم يجر ماؤه عليها لم تطهر . ا هـ .

                                                                                        ( قوله إلا في المني ) أي وإلا في المحاجم ومحل الفصادة فإن المسح فيها كالغسل كما مر [ ص: 239 ] ( قوله : ونظيره في الشرع النطفة إلخ ) مخالف لما مر في مسألة فرك المني فتأمل ، ثم رأيت بعض الفضلاء ذكر ما نصه فيه نظر لما قدمنا من أن المسعودي أشار إلى أن العلقة والمضغة نجستان كالمني ، وقد صرح بذلك في النهاية والتبيين ، وقد تقدم ذلك عن البحر والعجب من صاحب البحر فإنه جزم هناك بأن المضغة نجسة ونقل هنا عن الفتح أنها طاهرة وأقره وتبعه صاحب المنح في الموضعين ولم يتعقبه ولا يخفى ما في ذلك من التناقض والظاهر أنها نجسة لتصريح النهاية والتبيين بذلك ولما تقدم في النفاس عن الخلاصة أن السقط إذا لم يستبن شيء من خلقه لا عبرة له أصلا وهو كالدم . ا هـ .

                                                                                        فإن المتبادر من غير المستبين الخلق أن يكون مضغة غير مخلقة ، وقد ذكر أن حكمها كالدم يعني أنها لم تخرج عن حقيقة الدم كالنطفة والعلقة وهما نجستان فتكون المضغة نجسة فليتأمل ، ثم ظهر لي أنه يمكن دفع التناقض بأن يحمل القول بالنجاسة على المضغة الغير المخلقة أي التي لم تنفخ فيها الروح والقول بالطهارة على المضغة المخلقة أي التي نفخ فيها الروح لما نقلناه في النفاس عن أهل التفسير من أنهم قالوا في قوله تعالى { ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة } أن التخليق بنفخ الروح فالمخلقة ما نفخ فيها الروح وغير المخلقة ما لم ينفخ فيها الروح وعلى هذا ينبغي أن يعد نفخ الروح من المطهرات كما لا يخفى . والله تعالى أعلم ا هـ .




                                                                                        الخدمات العلمية