الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 46 ] ( والعاصي والمطيع في سفرهما في الرخصة سواء ) وقال الشافعي رحمه الله : سفر المعصية لا يفيد الرخصة ; لأنها تثبت [ ص: 47 ] تخفيفا فلا تتعلق بما يوجب التغليظ ، ولنا إطلاق النصوص ، ولأن السفر ليس بمعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح متعلق الرخصة . .

التالي السابق


( قوله : فلا تتعلق بما يوجب التغليظ ) يعني المعصية ; وهذا لأن قصد قطع الطريق ، وقتال الإمام العدل ، والإباق للعبد وعدم المحرم ، وقيام العدة للمرأة يوجب صيرورة نقل الخطإ معصية فيمنع الرخصة قياسا على قطاع الطريق في منعهم من صلاة الخوف إذا خافوا الإمام وعلى زوال العقل بمحظور عدم سقوط الخطاب . ولنا إطلاق النصوص : أي نصوص الرخصة قال تعالى { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وقال عليه الصلاة والسلام { يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها } وما قدمنا من الأحاديث المفيدة تعليق القصر على مسمى السفر فوجب إعمال إطلاقها إلا بمقيد ولم يوجد ، أما نص الكتاب ; فلأنه لو تم القياس الذي عينه لم يصلح مقيدا له عندنا فكيف ولم يتم فلا يصلح مقيدا له ولا لغيره من الأحاديث وذلك لاختلاف الجامع فإن المؤثر في أصله في منع الرخصة عدم سببها ، وذلك أن سبب الرخصة لا بد أن يكون مباحا ، وهو في صلاة الخوف الخوف وهو في قطاع الطريق سبب عن نفس المعصية : أعني قطع الطريق .

وسبب السبب سبب ، فلو ثبتت الرخصة أعني جواز صلاة الخوف لهم كانت المعصية نفسها هي الموجبة للتخفيف ، وكذا زوال العقل هو السبب وهو مسبب عن المعصية نفسها : أعني شرب المسكر إلى آخر ما قررناه ، بخلاف ما نحن فيه فإن السبب السفر وليس هو مستند إلى قطع الطريق ، فإن الذي صيره مسافرا ليس قطع الطريق بل الشروع في السير المخصوص لا باعتبار الطريق أصلا فعري السبب في نفسه عن المعصية وكانت هي مجاورة له ، وذلك غير مانع من اعتبار ما جاوره شرعا كالصلاة في المغصوبة والمسح على خف مغصوب والبيع وقت النداء وكثير من النظائر ، وهذا بناء على أن المراد بالسبب الفاعلي لا الغائي .

[ فروع ] التبع كالعبد والغلام والجندي والمرأة إذا وفاها مهرها والأجير والتلميذ والأسير والمكره تعتبر نية الإقامة والسفر من متبوعهم دونهم فيصيرون مقيمين ومسافرين بنيتهم ، ولو نوى المتبوع الإقامة ولا يعلمون اختلفوا في وقت لزومهم حكم الإقامة فقيل من وقت نية المتبوعين ، وقيل من وقت علمهم كما في توجه خطاب الشرع وعزل الوكيل ، والأحوط الأول فيكون كالعزل الحكمي فيقضون ما صلوا قصرا قبل علمهم ، وفي العبد المشترك بين مسافر ومقيم ، قيل يتم ، وقيل يقصر ، وقيل إن كان بينهما مهايأة في الخدمة قصر في نوبة المسافر وأتم في نوبة المقيم ، ويتفرع على اعتبار النية من المتبوع أن العبد لو أم سيده في السفر فنوى السيد الإقامة صحت ، حتى لو سلم العبد على رأس الركعتين فسدت صلاتهما .

وكذا لو باعه من مقيم حال سفره والعبد في الصلاة فسلم على رأس الركعتين فسدت ، ولو كان العبد أم مع السيد غيره من المسافرين فنوى السيد الإقامة صحت نيته في حق [ ص: 48 ] عبده لا في حق القوم في قول محمد ، فيقدم العبد على رأس الركعتين واحدا من المسافرين ليسلم بهم ثم يقوم هو والسيد فيتم كل منهما أربعا ، وهو نظير ما إذا صلى مسافر بمقيمين ومسافرين فأحدث فقدم مقيم لا ينقلب فرض القوم أربعا ، وهي المسألة التي ذكرناها في باب الحدث في الصلاة ، ثم بماذا يعلم العبد ؟ قيل ينصب المولى أصبعيه أولا ويشير بأصبعه ثم ينصب الأربع ويشير بها .

وفي حكم الأسير من بعث إليه الوالي ليؤتى به من بلدة ، والغريم إذا لزمه غريمه أو حبسه إن كان قادرا على أداء ما عليه ومن قصده أن يقضي دينه قبل خمسة عشر يوما فالنية في السفر والإقامة نيته ، وإلا فنية الحابس ، ولو أسلم كافر مسافر أو بلغ صبي مسافر اختلف فيهما ، فالشيخ أبو بكر بن الفضل على أنه إن كان بينهما وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام كانا مقيمين ، وقيل يصليان ركعتين ، وقيل الصبي إذا بلغ يصلي أربعا والكافر إذا أسلم يصلي ركعتين بناء على أن نية الكافر معتبرة ، ولا يجمع عندنا في سفر بمعنى أن يصلي العصر مع الظهر في وقت إحداهما والمغرب مع العشاء كذلك خلافا للشافعي ، بل بأن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها فينزل فيصليها في آخره ويفتتح الآتية في أول وقتها ، وهذا جمع فعلا لا وقتا . لنا ما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع ، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع ، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها } يعني غلس بها فكان قبل وقتها المعتاد فعلها فيه منه صلى الله عليه وسلم وكأنه ترك جمع عرفة لشهرته .

وما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلى الله عليه وسلم قال { ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى } فيعارض ما فيهما حديث أنس { أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق } وفي لفظ لهما عن ابن عمر { كان إذا عجل السير السفر جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق } ويترجح حديث ابن مسعود بزيادة فقه الراوي ، وبأنه أحوط فيقدم عند التعارض ، أو يحمل الشفق المذكور على الحمرة فإنه مشترك بينه وبين البياض الذي يلي أطرافه على ما قدمناه ، فيكون حينئذ عين ما قلناه من أن ينزل في آخر الوقت فيصلي الوقتية فيه ثم يستقبل الثانية في أول وقتها .

وقد وقع في أحاديث الجمع شيء من الاضطراب ; ففي بعضها عن ابن عباس رضي الله عنهما { جمع صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر } وفي بعضها { جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر } قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته ، ولم يقل منا ومنهم بجواز الجمع لذلك أحد وكيف ، وما تقدم من حديث ليلة التعريس يعارضه معارضة ظاهرة .




الخدمات العلمية