الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه ) قيل الشك في طهارته لأنه لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء ، [ ص: 114 ] وقيل الشك في طهوريته لأنه لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه ، وكذا لبنه طاهر وعرقه لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش ، فكذا سؤره وهو الأصح ، ويروى نص محمد رحمه الله على طهارته ، [ ص: 115 ] وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته ، أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته . [ ص: 116 ] وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس ترجيحا للحرمة والنجاسة ، والبغل من نسل الحمار فيكون بمنزلته ، [ ص: 117 ] ( فإن لم يجد غيرهما يتوضأ ويتيمم ويجوز أيهما قدم ) وقال زفر رحمه الله : لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء لأنه ماء واجب الاستعمال فأشبه الماء المطلق . ولنا أن المطهر أحدهما فيفيد الجمع دون الترتيب .

التالي السابق


( قوله مشكوك فيه ) كان الشيخ أبو طاهر الدباس ينكر هذه العبارة ويقول : لا يجوز كون شيء من أحكام الشرع مشكوكا فيه بل هو محتاط فيه . وفي النوازل : يحل شرب ماء شرب منه الحمار . وقال ابن مقاتل لا بأس به . قال الفقيه أبو الليث هذا خلاف قول أصحابنا ، ولو أخذ إنسان بهذا القول [ ص: 114 ] أرجو أن لا يكون به بأس والاحتياط أن لا يشرب ( قوله وقيل الشك في طهوريته لأنه لو وجد الماء المطلق إلخ ) فيه نظر ظاهر ، وهو أن وجوب غسله إنما يثبت بتيقن النجاسة ، والثابت الشك فيها فلا يتنجس الرأس بالشك فلا يجب .

( قوله وكذا لبنه طاهر وعرقه لا يمنع إلخ ) قال في النهاية ، هذا في العرق بحكم الروايات الظاهرة صحيح ، وأما في اللبن فغير صحيح لأن الرواية في الكتب المعتبرة بنجاسة لبنه فقط أو تسوية نجاسته وطهارته بذكر الروايتين فيه . قال شمس الأئمة في تعليل سؤر الحمار : اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته ، واعتباره بلبنه يدل على نجاسته فجعل لبنه نجسا . وفي المحيط : ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية . وعن محمد أنه طاهر ولا يؤكل . وقال التمرتاشي وعن البزدوي : أنه يعتبر فيه الكثير الفاحش وهو الصحيح . وعن عين الأئمة : الصحيح أنه نجس نجاسة غليظة لأنه حرام بالإجماع . وفي فتاوى قاضي خان : وفي طهارة لبن الأتان روايتان . وأما عرقه فعن أبي حنيفة أنه نجس غليظ وعنه خفيف . وقال القدوري : ظاهر في الروايات المشهورة ا هـ . وفي المنتقى : لبن الأتان كلعابه ، وعرقه يفسد الماء ولا يفسد الثوب وإن كان مغموسا فيه لأنه متولد منه كاللعاب . قال المصنف في التجنيس : ومعنى فساد الماء ما ذكرنا : يعني به ما مقدمه في تفسير قول عصام في عرق الحمار والبغل يصيب الماء يفسد وإن قل من أن المراد سلب طهوريته فقط ، لكن هذا في كلام المنتقى ظاهر لأنه لو كان مراده بالفساد التنجيس كان لنجاستها فلم يفترق الحال حينئذ بين الثوب والماء ، أما مراد عصام فلو كان ذلك لم يصح ( قوله وإن قل ) لأن الخالط الطاهر لا يسلب الطهورية إذا قل مطلقا ( قوله وهو الأصح ) يعني أنه في طهوريته [ ص: 115 ] قوله وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته ) فحديث خيبر في إكفاء القدور وفي بعض رواياته { أنه عليه الصلاة والسلام أمر مناديا ينادي بإكفائها فإنها رجس } رواه الطحاوي وغيره يفيد الحرمة وحديث { غالب بن أبجر حيث قال له صلى الله عليه وسلم : هل لك من مال ؟ فقال : ليس لي مال إلا حميرات لي ، فقال صلى الله عليه وسلم كل من سمين مالك } يفيد الحل واختلاف الصحابة رضي الله عنهم في طهارته ونجاسته ، فعن ابن عمر نجاسته ، وعن

[ ص: 116 ] ابن عباس طهارته ، وقد زيف شيخ الإسلام الأول بأن تعارض المحرم والمبيح لا يوجب شكا بل الثابت عنده الحرمة ، والثاني بأن الاختلاف أيضا لا يوجبه ، كما لو أخبر عدلان أحدهما بطهارة الماء والآخر بنجاسته يتهاتران ويعمل بالأصل وهو طهارة الماء ، والصواب عنده أن سببه التردد في تحقق الضرورة المسقطة للنجاسة ، فإنها تربط في الأفنية وتشرب من الإجانات المستعملة ، فبالنظر إلى هذا القدر من المخالطة تسقط نجاسة سؤره التي هي مقتضى حرمة لحمه الثابتة ، وبالنظر إلى أنه لا يدخل المضايق كالهرة والفأرة يكون مجانيا لا مخالطا فلا تسقط ، فلما وقع التردد في الضرورة وجب تقرير الأصول ، فالماء كان طاهرا فلا يتنجس بما لم تتحقق نجاسته ، والسؤر بمقتضى حرمة اللحم نجس فلا يحكم بطهارته ولا يتنجس الماء بوقوعه فيه ، وعلى هذا سقطت أسئلة الوجهان المذكوران لشيخ الإسلام .

والثالث أن يقال : لما وقع التعارض في السؤر وللماء خلف وجب أن يصار إليه كمن له إناءان طاهر ونجس ولا مميز ، فإنه يسقط استعمال الماء ويجب التيمم لأنها إنما تلزم لو لم يعتبر تقديم [ ص: 117 ] المحرم .

والرابع أن في استعمال الماء ترك الاحتياط لتنجس العضو بتقدير نجاسته . ولا يلزم لعدم تنجس متيقن الطهارة بالشك . والخامس أن مقتضى عدم النجاسة أن الماء إن كان مغلوبا باللعاب كان مقيدا فيجب التيمم عينا وإن كان غالبا وجب الوضوء عينا فمن أين وجب الضم ، وإنما يلزم لو لم يجب تقرير الأصول للتردد في ثبوت الضرورة ، وإذ قررت وكان الحدث ثابتا بيقين لم يزل به وإن كان مغلوبا ، وعند هذا ظهر أن تقرير الأصول بسبب التردد في الضرورة مع الاحتياط يبين قول أبي طاهر أنه محتاط فيه وأن اللعاب نجس لا يتنجس به مخالطه وأنه لا شبهة في طهارة العرق بالنسبة إلى الثوب لأنه لا تردد في ثبوت الضرورة في ذلك ، وقد { ركب صلى الله عليه وسلم الحمار معروريا } ، وبه يتبين فساد قول عصام المذكور آنفا وصحة ما في المنتقى لو حملنا الفساد على النجاسة ، لأن الضرورة لم تتحقق بالنسبة إلى الماء إلا إذا تعدى إليه بغسل الثوب ، وحينئذ ينبغي أن لا يتنجس لأنه غسل فيه ما هو محكوم بطهارته شرعا ، بخلاف ما لو قطر من عرقه في الماء ونحوه ، وهذا محمل ما في المنتقى في اعتقادي .

فإن قلت : تقرير الأصول أفاد النجاسة غير أنه لا يتنجس به المخالط ونص محمد على طهارته ينافيه . قلنا إنما نص على طهارة السؤر وهو الماء الذي خالطه اللعاب فلا ينافي تقرير الأصول ، هذا وقد تحقق الضرورة في عرقه فيجب سقوط نجاسته ، بخلاف لعابه متردد في ثبوت الضرورة فقررت الأصول ( قوله ويجوز أيهما قدم ) والأفضل تقديم الوضوء . فرعان : الأول اختلفوا في النية في الوضوء بسؤر الحمار والأحوط أن ينوي . الثاني لو توضأ بسؤر الحمار وصلى الظهر ثم تيمم وصلاها صحت الظهر لما ذكر في دفع قول زفر وهو أن المطهر أحدهما لا المجموع . فإن كان السؤر صحت به ولغت صلاة التيمم ، أو التيمم فبالقلب




الخدمات العلمية