الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين [ ص: 1366 ] هذا من إنصاف القرآن، فهو لا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذكرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب، فيقول: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما

                                                          ويقول سبحانه: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون

                                                          وفي هذه الآية يذكر بالخير العظيم طائفة من هؤلاء فيقول الحكم العدل تعالت كلماته: " ليسوا سواء " أي: ليسوا متساوين في هذه الأعمال وتلك الأخلاق، أو ليسوا متساوين مطلقا، فليسوا جميعا أشرارا. وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعا مطلقا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه ويريدونه ويبتغونه عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضال، ومنهم المضل، ومنهم الناطق بالحق الذي لا يجد داعيا، أو يحمل على السكوت في وسط نكران الضالين، ففي وسط طغيان فرعون، وانقماع قومه في إرادته، وجد مؤمن آل فرعون، ينطق فيهم قائلا كما حكى الله تعالى عنه: وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد

                                                          وبعد أن ذكر سبحانه أنهم ليسوا سواء، وقد ذكر أحوال أشرارهم، أخذ يبين أحوال أخيارهم، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون أي: من أهل الكتاب الذين ذكرنا أوصاف الكثرة منهم - طائفة تؤم وتقصد موجودة حاضرة ليست ماضية خالية، فمعنى " قائمة " على هذا موجودة، وفسر الزمخشري [ ص: 1367 ] كلمة " قائمة " بمعنى مستقيمة على العدل والحق، مأخوذة من قولهم أقمت العود فقام واستقام. وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا الجزء من الآية الكريمة وصفين اثنين: أنهم يتلون آيات الله، والثاني: أنهم يسجدون، ومعنى " يسجدون " أي: يخضعون ويتطامنون للحق ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم. يرجون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دعوا، فكنى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يعد السجود مظهره، ويصح أن يراد به السجود الذي يقع في صلاة المسلمين على ما سنبين، وقد ذكر ذلك الوصف مصدرا بـ " هم " إذ يقول: وهم يسجدون، فلم يقل ويسجدون؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شئونهم، وليس حالا تعرض لهم، إذ إن ذكر الضمير فيه تقوية الإسناد وتوثيق لدوامه واستمراره.

                                                          وما هو الكتاب الذي يتلونه كما أشار الوصف الأول؟ إن الجواب عن هذا السؤال يستدعي بيان من هذه الطائفة التي استحقت تلك الأوصاف الجليلة التي وصفها الله تعالى بها، ونقول في ذلك: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك على رأيين:

                                                          أحدهما: أنها طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالله - تعالى - وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأذعنوا للحق الذي جاء به ودعا إليه، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام وطائفة من اليهود الذين كانوا يقيمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ينطبق على النصارى وغيرهم الذين يهتدون بهدي الإسلام، ويرتضونه عن بينة دينا لهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم وفي أمثالهم ممن يكونون في قابل الأيام: " ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فله أجران " وعلى هذا الرأي يكون تفسير " قائمة " بمعنى موجودة؛ لأنها قد وجدت حقيقة، وارتضت الإسلام دينا.

                                                          [ ص: 1368 ] الرأي الثاني: أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ولم تعتنق الإسلام، وكانت قبله أو بعده ولم تبلغها الدعوة على وجهها، ولم تحرف التوراة أو الإنجيل أو لم تأخذ بالمحرف منهما، وقد أثر ذلك الرأي عن بعض السلف، فقد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى " أمة قائمة " : " أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه " وروي عن قتادة أنه كان يقول في الآية: " ليس كل القوم هلك، لقد كان فيهم بقية " .

                                                          ويكون معنى " قائمة " على هذا التفسير بمعنى مستقيمة مهتدية مؤمنة بالحق مذعنة له.

                                                          وقد اختار التفسير الثاني الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما نقله عنه صاحب المنار، فيقول: (وظاهر أن هذا كالذي قبله في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم) .

                                                          وآيات الكتاب التي يتلونها على ذلك هي البقية الصحيحة من كتبهم التي تشتمل على أدعية كلها توحيد وضراعة ونحو ذلك من أمثال بعض مزامير داوود، مثل ما جاء في المزمور الخامس والعشرين: " إليك يا رب أرفع نفسي، عليك توكلت، فلا تدعني أخزى، لا تشمت بي أعدائي، كل منتظريك لا يخزون، ليخز الغادرون بلا سبب، طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني، وربني في حقك وعلمني) . وأمثال هذه الأدعية والمناجاة لعلها البقية الباقية من تلك الكتب التي حرف فيها الكلم عن مواضعه.

                                                          وعندي أن الآية الكريمة في أهل الكتاب الماضين الذين استقاموا على الحق، ولم يدركوا عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لأن القرآن الكريم تكلم عن ماضي أهل الكتاب وحاضرهم، فحاضرهم كان سوءا، وذكر ماضيهم فبين أن بعضه كان سوءا وكان منهم أمة مقتصدة، فهذه الأوصاف في الأمة المقتصدة التي مضت، ويصح أن تطلق على المخلصين من أهل الكتاب الذين لم يبلغوا دعوة الإسلام، وكان فيهم إخلاص للحق وطلب له وإجابة لداعيه إن دعوا إليه، ويكونون داخلين بالقياس على الماضين.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية