الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 387 ] وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بقية السلف الكرام العالم الرباني المقذوف في قلبه النور القرآني أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه وأسكنه فسيح الجنان . الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله مخلصا حتى أتاه اليقين من ربه . صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

                [ ص: 388 ] فصل في " العبادات " و " الفرق بين شرعيها وبدعيها " . فإن هذا باب كثر فيه الاضطراب كما كثر في باب الحلال والحرام . فإن أقواما استحلوا بعض ما حرمه الله وأقواما حرموا بعض ما أحل الله تعالى وكذلك أقواما أحدثوا عبادات لم يشرعها الله بل نهى عنها . و " أصل الدين " أن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ; ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله . قال الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } .

                وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : هذه سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو [ ص: 389 ] إليه ، ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } } . وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم وشرعوا دينا لم يأذن به الله فقال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات كالشرك والفواحش مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك . والكلام في " الحلال والحرام " له مواضع أخر .

                والمقصود هنا " العبادات " فنقول . العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى منها ما كان محبوبا لله ورسوله مرضيا لله ورسوله إما واجب وإما مستحب كما في الصحيح { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها [ ص: 390 ] فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } . ومعلوم أن الصلاة منها فرض وهي الصلوات الخمس ومنها نافلة كقيام الليل وكذلك الصيام فيه فرض وهو صوم شهر رمضان ومنه نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى المسجدين الآخرين : مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس - مستحب .

                وكذلك الصدقة منها ما هو فرض ومنها ما هو مستحب وهو العفو كما قال تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } .

                وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول } والفرق بين الواجب والمستحب له موضع آخر غير هذا والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع سواء كان واجبا أو مستحبا وما ليس بمشروع .

                فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى وهو سبيل الله [ ص: 391 ] وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف وهو طريق السالكين ومنهاج القاصدين والعابدين وهو الذي يسلكه كل من أراد الله هدايته وسلك طريق الزهد والعبادة وما يسمى بالفقر والتصوف ونحو ذلك . ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة واجبها ومستحبها ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع وقراءة القرآن على الوجه المشروع والأذكار والدعوات الشرعية . وما كان من ذلك موقتا بوقت كطرفي النهار وما كان متعلقا بسبب كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف وصلاة الاستخارة وما ورد من الأذكار والأدعية الشرعية في ذلك . وهذا يدخل فيه أمور كثيرة وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي كصيام نصف الدهر وثلثه أو ثلثيه أو عشره وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر ويدخل فيه السفر الشرعي كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع .

                و " العبادات الدينية " أصولها : الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : { ألم أحدث أنك قلت لأصومن [ ص: 392 ] النهار ولأقومن الليل ولأقرأن القرآن في ثلاث ؟ قال : بلى قال : فلا تفعل : فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فقال إني أطيق أكثر من ذلك فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم فقال : إني أطيق أكثر من ذلك فقال : لا أفضل من ذلك وقال : أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى .

                وأفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع
                } . ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين : { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية } فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة وأنهم يغلون في ذلك حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء .

                وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقه فآل الأمر بهم إلى البدعة فقال : { يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } . فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم . وجاءت فيهم الأحاديث [ ص: 393 ] الصحيحة قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى صح فيهم الحديث من عشرة أوجه وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها . ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة ; ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها ، وله صنف " كتاب الاقتصاد في العبادة " .

                وقال أبي بن كعب وغيره : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة . والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين وأيام التشريق وقيام جميع الليل هل هو مستحب ؟ كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء والصوفية والعباد ، أو هو مكروه كما دلت عليه السنة وإن كان جائزا ؟ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل وقيام ثلث الليل أفضل ولبسطه موضع آخر . إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالاعتكاف الشرعي . والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه من العبادات الشرعية .

                وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي وهذا خطأ ; [ ص: 394 ] فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه وإلا فلا . وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون . وقد أقام صلوات الله عليه بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة ودخل مكة في عمرة القضاء وعام الفتح أقام بها قريبا من عشرين ليلة وأتاها في حجة الوداع ; وأقام بها أربع ليال وغار حراء قريب منه ولم يقصده . وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية ويقال : إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه كالصلاة والاعتكاف في المساجد فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي فإنه لم يكن يقرأ بل { قال له الملك عليه السلام اقرأ قال صلوات الله عليه وسلامه فقلت لست بقارئ } ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة ; ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين كأبي جهل قال الله تعالى : { أرأيت الذي ينهى } { عبدا إذا صلى } { أرأيت إن كان على الهدى } { أو أمر بالتقوى } { أرأيت إن كذب وتولى } { ألم يعلم بأن الله يرى } { كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية } { ناصية كاذبة خاطئة } { فليدع ناديه }

                { سندع الزبانية } { كلا لا تطعه واسجد واقترب } و " طائفة " يجعلون الخلوة أربعين يوما ويعظمون أمر الأربعينية [ ص: 395 ] ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر وقد روي أن موسى عليه السلام صامها وصام المسيح أيضا أربعين لله تعالى وخوطب بعدها . فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي . وهذا أيضا غلط فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بل شرعت لموسى عليه السلام كما شرع له السبت والمسلمون لا يسبتون وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا تمسك بشرع منسوخ وذاك تمسك بما كان قبل النبوة . وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين وحصل له تنزل شيطاني وخطاب شيطاني وبعضهم يطير به شيطانه وأعرف من هؤلاء عددا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل فنزلت عليهم الشياطين ; لأنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها . قال تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } . وكثير منهم لا يحد للخلوة مكانا ولا زمانا بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية