الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(فصل) قال أبو بكر : قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية ، وما في ضمنها من الدلائل على المعاني ، وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها ، وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وإنزال الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ، ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في [ ص: 34 ] قوله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فحثنا على التفكر فيه ، وحرضنا على الاستنباط والتدبر ، وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين . ودل بما أنزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها ، وأن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره ، وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره ؛ إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده ، فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال .

فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن ؛ إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر . وأنا ذاكر مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا ، والله تعالى نسأل التوفيق . فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة ما احتمله اللفظ من إرادة القيام .

والثاني : ما اقتضته حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام . والثالث : ما احتمله من القيام من النوم ؛ لأن الآية على هذه الحال نزلت . والرابع : اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم .

والخامس : احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة ، واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة ما لم يحدث . والسادس : احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الإحداث . والسابع : دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير دلك واحتمالها لقول من أوجب الدلك . والثامن : إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وأن مسحها غير جائز على ما بينا ، وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء . والتاسع : دلالتها على جواز الوضوء بغير نية . والعاشر : دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى : وجوهكم إذ كان الوجه ما واجهك ، وأن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء .

والحادي عشر : دلالتها على أن تخليل [ ص: 35 ] اللحية غير واجب ؛ إذ لم يكن باطنها من الوجه . والثاني عشر : دلالتها على نفي إيجاب التسمية في الوضوء . والثالث عشر : دلالتها على دخول المرافق في الغسل . والرابع عشر : احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة فيه . والخامس عشر : دلالتها على جواز مسح بعض الرأس .

والسادس عشر : احتمالها لوجوب مسح الجميع . والسابع عشر : احتمالها لجواز مسح البعض ، أي بعض كان منه . والثامن عشر : دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات ؛ إذ غير جائز تكليفه ما لا يمكن الاقتصار عليه . والتاسع عشر : احتمالها لوجوب غسل الرجلين . والعشرون : احتمالها لجواز المسح على قول موجبي استيعابها بالمسح . والحادي والعشرون : دلالتها على بطلان قول مجيزي مسح البعض بقوله : إلى الكعبين

والثاني والعشرون : دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء . والثالث والعشرون : دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين . والرابع والعشرون : دلالتها على جواز المسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث ؛ لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله . والخامس والعشرون : دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلت على المسح على الخفين ؛ لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه ، وإن كان عليهما خفان . والسادس والعشرون : دلالتها على جواز المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلى دليل في أن المسح على الجوربين غير مراد . والسابع والعشرون : دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع جوازه على العمامة والخمار .

فإن قيل : فإن كان ذلك دليلا على بطلان المسح على العمامة ، فقوله : وأرجلكم يدل على بطلان المسح على الخفين .

قيل له : لما كان قوله : وأرجلكم محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالهما استعملناه ما في حالين ، وإن كان في أحدهما مجازا ، لئلا نسقط واحدا منهما ، ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله : وامسحوا برءوسكم على المجاز ، فاستعملناه على حقيقته . والثامن والعشرون : دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع . والتاسع والعشرون : دلالتها على نفي فرض الاستنجاء ، وعلى جواز الصلاة مع تركه ، وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح . والثلاثون : دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ، وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه [ ص: 36 ] الوضوء . والحادي والثلاثون : دلالتها على أن مسح الأذنين ليس بفرض ، وبطلان قول من أجاز المسح عليهما ما دون الرأس . والثاني والثلاثون : دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحة الصلاة بالغسل على أي وجه حصل .

والثالث والثلاثون : دلالتها على بطلان قول موجبي الترتيب في الوضوء . والرابع والثلاثون : اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة . والخامس والثلاثون : دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمي به اجتناب أشياء ، إذا كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه ، وهو ما قد بين حكمه في غيرها . والسادس والثلاثون : دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا والسابع والثلاثون : دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه . والثامن والثلاثون إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء والتاسع والثلاثون : جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء . والأربعون جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد ؛ إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر .

والحادي والأربعون : دلالتها على جواز التيمم للجنب ؛ إذ كان قوله تعالى : أو لامستم النساء يحتمل الجماع . والثاني والأربعون : احتمالها إيجاب الوضوء من مس المرأة ؛ إذ كان قوله تعالى : أو لامستم يحتمل الأمرين . والثالث والأربعون : دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم ؛ إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله ، وهو المريض والمجروح . والرابع والأربعون : دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم ، ؛ إذ هو غير واجد للماء ، والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده . والخامس والأربعون : دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله ؛ لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ، ثم قال تعالى : فلم تجدوا ماء يعني ما يكفي لغسلها ؛ ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم ، فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد . والسادس والأربعون : احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فذكر عدم كل جزء منه ، إذ كان نكرة في جواز التيمم ، فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم . والسابع والأربعون : دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه ، ؛ إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا ، فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها . والثامن والأربعون : دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يجز له التيمم ، ؛ إذ كان واجدا للماء ، لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء [ ص: 37 ] بقوله تعالى : فاغسلوا من غير ذكر الوقت . والتاسع والأربعون : دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد الماء ولا ترابا نظيفا أنه لا يصلي ؛ لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الآية من ماء أو تراب . والخمسون : احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا . والحادي والخمسون جواز التيمم قبل دخول الوقت ، ؛ إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى : فلم تجدوا ماء والثاني والخمسون : دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء ، بقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ثم قوله في سياقه : فتيمموا فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء ، فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم . والثالث والخمسون : دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء ، لقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف . والرابع والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به . والخامس والخمسون

مسح اليدين إلى المرفقين لاقتضاء قوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق إياها ، وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل . والسادس والخمسون : جوازه بكل ما كان من الأرض لقوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا والصعيد الأرض .

والسابع والخمسون بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى طيبا والنجس ليس بطيب . والثامن والخمسون : وجوب النية في التيمم من وجهين :

أحدهما : أن التيمم القصد والثاني : قوله تعالى : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه على ما بينا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع ، وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية ويوجب الاستئناف . والتاسع والخمسون : احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه ، لقوله : منه وهو للتبعيض . والستون : دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش ؛ إذ ليسا من الصعيد . والواحد والستون : دلالة قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوها توجب الوضوء ؛ إذ كان الغائط وهو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك . والثاني والستون : دلالة قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم على جواز الغسل بسائر المائعات إلا ما خصه الدليل ، فيستدل به على جواز الوضوء بنبيذ التمر ويستدل به أيضا الحسن بن صالح على جوازه بالخل وما جرى مجراه ويستدل به أيضا على جواز [ ص: 38 ] الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك . والثالث والستون : دلالة قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا على جوازه بالنبيذ ؛ إذ كان في النبيذ ماء ، وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ، ويستدل به أيضا من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخل التمر ونحوه ؛ إذ كان فيه ماء .

والرابع والستون : دلالتها لمن يمنع المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان ، لقوله : إذا قمتم إلى الصلاة فقد روي : " إذا قمتم وأنتم محدثون " وهي محدثة ، لوجود الحدث بعد الطهارة . والخامس والستون : دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة ؛ إذ كان التيمم غير رافع للحدث ، فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث . والسادس والستون : دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء لقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله : إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا فأمر بالصلاة عند دلوكها ، وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما ؛ فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت ، كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله . والسابع والستون : دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به ، لقوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله : فتيمموا صعيدا فشرط في إباحة التيمم شيئين :

أحدهما المرض ، والآخر : السفر مع عدم الماء ؛ فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس ، فغير جائز صلاته بالتيمم .

فإن قيل : فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما . قيل له : هو كذلك ، إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين :

أحدهما : السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء ، والثاني : عدمه ؛ وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب ، وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها ، والغالب منها عدمه .

والثامن والستون : دلالة قوله : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج على نفي كل ما أوجب الحرج ، والاحتجاج به عند وقوع الخلاف على منتحلي مذهب التضييق ؛ فيدل على جواز التيمم ، وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه ؛ إذ كان فيه نفي الضيق والحرج ، وعلى نفي إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة ، وعلى نفي إيجاب [ ص: 39 ] النية فيها ، وما جرى مجرى ذلك . والتاسع والستون : دلالة قوله : ولكن يريد ليطهركم على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره ، ومن موالاة أو تفريق ، ومن وجوب نية أو عدمها ، وما جرى مجرى ذلك . والسبعون : دلالة قوله : فاطهروا على سقوط اعتبار تقدير الماء ؛ إذ كان المراد التطهير ، وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع غير موجب اعتباره . والواحد والسبعون : أن قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم فيه دلالة على أن المراد مسحه بالماء ؛ فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الأحكام ، منها نصوص ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصح بها . وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى بحث عنها واستقصي النظر فيها أدركها من وفق لفهمها ؛ والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية