الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا رأى البيت دعا لما روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة } ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء لما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ترفع الأيدي في الدعاء لاستقبال البيت } ويستحب أن يقول : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا ; لما روى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال ذلك } ويضيف إليه : اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام ; لما روي أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك ) .

                                      [ ص: 14 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث أبي أمامة فغريب ليس بثابت . وأما حديث ابن عمر فرواه الإمام سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما ، وهو ضعيف باتفاقهم ; لأنه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الإمام المشهور ، وهو ضعيف عند المحدثين . وأما حديث ابن جريج فكذا [ ص: 11 ] رواه الشافعي والبيهقي عن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مرسل معضل . وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فرواه البيهقي وليس إسناده بقوي . أما الأحكام فاعلم أن بناء البيت زاده الله فضلا وشرفا رفيعا ، يرى قبل دخول المسجد في مكان يقال له رأس الردم إذا دخل من أعلى مكة ، وهناك يقف ويدعو ، قال الشافعي والأصحاب : إذا رأى البيت استحب أن يرفع يديه ويقول ما ذكره المصنف من الذكر والدعاء ، ويدعو مع ذلك بما أحب من مهمات الدين والدنيا والآخرة ، وأهمها سؤال المغفرة ، وهذا الذي ذكرته من استحباب رفع اليدين هو المذهب ، وبه صرح المصنف والقاضي أبو حامد في جامعه ، والشيخ أبو حامد في تعليقه ، وأبو علي البندنيجي في جامعه ، والدارمي في الاستذكار ، والماوردي في الحاوي ، والقاضي أبو الطيب في المجرد ، والمحاملي في كتابيه ، والقاضي حسين والمتولي والبغوي وصاحب العدة وآخرون ، قال القاضي أبو الطيب في المجرد : نص عليه الشافعي في الجامع الكبير . وقال صاحب الشامل : يستحب أن يرفع يديه مع هذا الدعاء ، ثم قال : قال الشافعي في الإملاء : لا أكرهه ولا أستحبه ، ولكن إن رفع كان حسنا . هذا نصه وليس في المسألة خلاف على الحقيقة ; لأن هذا النص محمول على وفق النص الذي نقله أبو الطيب وجزم به الأصحاب . وقد قدمت في آخر باب صفة الصلاة فصلا في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الدعاء في مواطن كثيرة . والله أعلم .

                                      [ ص: 12 ] فرع ) هذا الذي ذكره المصنف هكذا جاء في الحديث ، وكذا ذكره الشافعي في الأم ، وكذا ذكره الأصحاب في جميع طرقهم ، ونقله المزني في المختصر فغيره فقال : " وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة " وقد كرر المهابة في الموضعين . قال أصحابنا في الطريقين : هذا غلط من المزني ، وإنما يقال في الثاني : وبرا ، لأن المهابة تليق بالبيت والبر يليق بالإنسان . وهكذا هو في الحديث ، وفي نص الشافعي في الأم . وممن نقل اتفاق الأصحاب على تغليط المزني صاحب البيان . وكذا هو مصرح به في كتب الأصحاب . ووقع في الوجيز ذكر المهابة والبر جميعا في الأول ، وذكر البر وحده ثانيا ، وهذا أيضا مردود ، والإنكار في ذكره البر في الأول والله أعلم . قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد : التكبير عند رؤية الكعبة لا يعرف للشافعي أصلا ، قال ومن أصحابنا من قال : إذا رآها كبر . قال القاضي : هذا ليس بشيء .

                                      ( فرع ) قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد قوله : " اللهم أنت السلام " المراد به أن السلام من أسماء الله تعالى ، قال : وقوله " ومنك السلام " أي السلامة من الآفات ، وقوله " حينا ربنا بالسلام " أي اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في رفع اليدين عند رؤية الكعبة . قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه ، وبه قال جمهور العلماء ، حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وسفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ، قال : وبه أقول . وقال مالك : لا يرفع ، وقد يحتج له بحديث المهاجر المكي قال : { سئل جابر بن عبد الله عن الرجل الذي يرى البيت يرفع يديه فقال : ما كنت أرى أحدا يفعل هذا إلا اليهود ، قد حججنا مع [ ص: 13 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله } رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن ، ورواه الترمذي عن المهاجر المكي أيضا قال سئل جابر بن عبد الله { أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت ؟ فقال : حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نفعله } هذا لفظ رواية الترمذي وإسناده حسن ، قال أصحابنا : رواية المثبت للرفع أولى ; لأن معه زيادة علم . قال البيهقي : رواية غير جابر في إثبات الرفع أشهر عند أهل العلم من رواية المهاجر المكي . قال : والقول في مثل هذا قول من رأى وأثبت . والله أعلم .



                                      ( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه يستحب للمحرم أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة ، صرحوا بأنه لا فرق بين أن يكون في صوب طريقه أم لا ، فيستحب أن يعدل إليه من لم يكن على طريقه ، وهذا لا خلاف فيه . قال الخراسانيون : والفرق بينه وبين الثنية العليا على اختيار الخراسانيين حيث قالوا : لا يستحب العدول إليها كما سبق أنه لا مشقة في العدول إلى باب بني شيبة بخلاف الثنية . قال القاضي حسين وغيره : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم " عدل إلى باب بني شيبة ولم يكن على طريقه " .

                                      واحتج البيهقي للدخول من باب بني شيبة بما رواه بإسناده الصحيح عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم في عهد قريش دخل مكة من هذا الباب الأعظم ، وقد جلست قريش مما يلي الحجر } ثم قال البيهقي : وروي عن ابن عمر مرفوعا في دخوله من باب بني شيبة ، وخروجه من باب الحناطين . قال : وإسناده عنه قوي . قال : وروينا عن ابن جريج عن عطاء قال " يدخل المحرم من حيث شاء { ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة ، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا } قال البيهقي : هذا مرسل جيد ، والله أعلم .



                                      [ ص: 14 ] فرع ) يستحب أن يقدم في دخوله المسجد رجله اليمنى ، وفي خروجه اليسرى ، ويقول الأذكار المشروعة عند دخول المساجد والخروج منها ، وقد سبق بيانها في آخر باب ما يوجب الغسل . وينبغي له أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع والمهابة والإجلال ، فهذه عادة الصالحين وعباد الله العارفين ; لأن رؤية البيت تشوق إلى رب البيت . وقد حكوا أن امرأة دخلت مكة فجعلت تقول : أين بيت ربي ؟ فقيل : الآن ترينه ، فلما لاح البيت قيل لها : هذا بيت ربك : فاشتدت نحوه فألصقت جبينها بحائط البيت فما رفعت إلا ميتة . وأن الشبلي رضي الله عنه غشي عليه عند رؤية الكعبة ثم أفاق فأنشد :

                                      هذه دار هم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق






                                      الخدمات العلمية