الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 123 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلتين فإنه يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله لما روى عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة ، فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : حي على الفلاح ، فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله فقال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة . } فإن سمع ذلك وهو في الصلاة لم يأت بها في الصلاة فإذا فرغ أتى بها ، فإن كان في قراءة أتى بها ، ثم رجع إلى القراءة لأنها تفوت ، والقراءة لا تفوت ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا } ثم يسأل الله تعالى الوسيلة فيقول : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت [ سيدنا ] محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قال حين يسمع النداء ذلك حلت له شفاعتي يوم القيامة } وإن كان الأذان للمغرب قال : " اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك اغفر لي " ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة رضي الله عنها أن تقول ذلك ، ويدعو الله تعالى بين الأذان والإقامة لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديثا عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم رواهما مسلم باللفظ الذي ذكره ، وحديث جابر رواه البخاري بلفظه هذا ، وحديث أم سلمة رواه أبو داود والترمذي ، وفي إسناده مجهول ، وحديث أنس رواه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قال حين يسمع المؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا [ ص: 124 ] عبده ورسوله ، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه } وقوله : الوسيلة هي منزلة في الجنة ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة } .

                                      وقوله : الدعوة التامة هي بفتح الدال وهي دعوة الأذان سميت دعوة تامة لكمالها وعظم موقعها وسلامتها من نقص يتطرق إلى غيرها ، وقوله : الصلاة القائمة أي : التي ستقوم أي : تقام وتحضر ، قوله : مقاما محمودا وهكذا هو في المهذب مقاما محمودا بالتنكير ، وكذا هو في صحيح البخاري وجميع كتب الحديث ، وهو صحيح ويكون قوله : الذي وعدته بدلا منه ، أو منصوبا بفعل محذوف تقديره أعني الذي وعدته ، أو مرفوعا خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الذي وعدته .

                                      وأما ما وقع في التنبيه وكثير من كتب الفقه " المقام المحمود " فليس بصحيح في الرواية وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم التأدب مع القرآن ، وحكاية لفظه في قول الله عز وجل : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فينبغي أن يحافظ على هذا وقوله صلى الله عليه وسلم " حلت له شفاعتي " أي : غشيته ونالته ونزلت به وقيل حقت له .

                                      ( أما أحكام الفصل ) فقال أصحابنا يستحب للمؤذن أن يقول بعد فراغ أذانه هذه الأذكار المذكورة من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة والدعاء بين الأذان والإقامة ، والدعاء عند أذان المغرب ، ويستحب لسامعه أن يتابعه في ألفاظ الأذان ويقول عند الحيعلتين " لا حول ولا قوة إلا بالله " فإذا فرغ من متابعته استحب له أيضا أن يقول هذه الأذكار المذكورة كلها ، ويقول إذا سمع قول المؤذن " الصلاة خير من النوم " صدقت وبررت هذا هو المشهور . وحكى الرافعي وجها أنه يقول : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير من النوم . ويستحب أن يتابعه [ ص: 125 ] في ألفاظ الإقامة ، إلا أنه يقول في كلمة الإقامة أقامها الله وأدامها . هكذا قطع به الأصحاب ، إلا الغزالي فحكى في البسيط عن صاحب التقريب وجها أنه لا يستحب متابعته إلا في كلمة الإقامة .

                                      وهذا شاذ ضعيف . قال أصحابنا : ويستحب أن يتابع المؤذن في كل كلمة عقب فراغ المؤذن منها ولا يقارنه ولا يؤخر عن فراغه من الكلمة ، ويدل عليه حديث عمر رضي الله عنه ويقول " لا حول ولا قوة إلا بالله " أربع مرات في الأذان ، ومرتين في الإقامة فيقولها عقب كل مرة من قول المؤذن " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " ويقول في التثويب صدقت وبررت مرتين ، ذكرهالروياني في الحلية . وغيره . وتستحب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ ، ثم سؤال الوسيلة بعدها للمؤذن والسامع ، وكذا الدعاء بين الأذان والإقامة يستحب لهما ولغيرهما . قال أصحابنا : وإنما استحب للمتابع أن يقول مثل المؤذن في غير الحيعلتين ليدل على رضاه به وموافقته في ذلك ، وأما الحيعلة فدعاء إلى الصلاة ، وهذا لا يليق بغير المؤذن فاستحب للمتابع ذكر آخر ، فكان لا حول ولا قوة إلا بالله ; لأنه تفويض محض إلى الله تعالى . وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة } قال أصحابنا : ويستحب متابعته لكل سامع من طاهر ومحدث وجنب وحائض وكبير وصغير ; لأنه ذكر . وكل هؤلاء من أهل الذكر ، ويستثنى من هذا المصلي ومن هو على الخلاء والجماع ، فإذا فرغ من الخلاء والجماع تابعه ، صرح به صاحب الحاوي وغيره ، فإذا سمعه وهو في قراءة أو ذكر أو درس علم أو نحو ذلك قطعه وتابع المؤذن ، ثم عاد إلى ما كان عليه إن شاء .



                                      . وإن كان في صلاة فرض أو نفل قال الشافعي والأصحاب : لا يتابعه في الصلاة فإذا فرغ منها قاله .

                                      وحكى الخراسانيون في استحباب متابعته في حال الصلاة قولا . وهو شاذ ضعيف ، فإذا قلنا بالمذهب أنه لا يتابعه فتابعه فقولان ، أصحهما يكره ، والثاني : أنه خلاف الأولى . وقيل إنه مباح لا يستحب فعله ولا تركه ولا يكره ، وهذا اختيار الشيخ أبي علي السنجي وإمام الحرمين والمذهب [ ص: 126 ] كراهته . فإذا تابعه في ألفاظ الأذكار وقال في الحيعلتين : لا حول ولا قوة إلا بالله لم تبطل صلاته ; لأنها أذكار والصلاة لا يبطلها الأذكار . وإن قال في الحيعلة حي على الصلاة حي على الفلاح ، فهذا كلام آدمي ، فإن كان عالما بأنه في الصلاة وأن هذا كلام آدمي بطلت صلاته ، وإن كان ناسيا للصلاة لم تبطل ، وإن كان عالما بالصلاة جاهلا بأن ذلك كلام آدمي وأنه ممنوع منه ففي بطلان صلاته وجهان حكاهما القاضي حسين في تعليقه وغيره ، أصحهما لا تبطل ، وبه قطع الأكثرون ، منهم الشيخ أبو حامد وصاحب الحاوي والمحاملي وصاحب الشامل والإبانة والمتولي وصاحب العدة . قالوا : ويسجد للسهو الناسي وكذا الجاهل إذا لم تبطلها ; لأنه تكلم في صلاته ناسيا . قال القاضي حسين ولو قال في متابعته في التثويب صدقت وبررت فهو كقوله : حي على الصلاة ; لأنه كلام آدمي ، قال وكذا لو قال مثله : الصلاة خير من النوم ، قال : ولو قال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبطل صلاته . ولو قال : قد قامت الصلاة بطلت صلاته ، كما لو قال حضرت الصلاة ، ولو قال أقامها الله أو اللهم أقمها وأدمها لم تبطل صلاته . هذا كلام القاضي وهو كما قال . واتفقوا على أنه لا يتابعه إذا كان في أثناء قراءة الفاتحة فإن ذلك مكروه ، وممن نقل الاتفاق عليه إمام الحرمين قالوا : فلو تابع فيها وجب استئناف القراءة بلا خلاف ; لأنه غير مستحب بخلاف ما لو أمن فيها لتأمين الإمام فإنه لا يوجب الاستئناف على الأصح ; لأن التأمين مستحب قال صاحب الشامل : قال أبو إسحاق وليس التأكيد في متابعة المؤذن بعد فراغ المصلي كالتأكيد في متابعة من ليس هو في صلاة . قال صاحب الحاوي ولو سمعه وهو في الطواف تابعه وهو على طوافه ; لأن الطواف لا يمنع الكلام .



                                      ( فرع ) إذا سمع مؤذنا بعد مؤذن ، هل يختص استحباب المتابعة بالأول ؟ أم يستحب متابعة كل مؤذن ؟ فيه خلاف للسلف حكاه القاضي عياض في شرح صحيح مسلم ، ولم أر فيه شيئا لأصحابنا ، والمسألة محتملة ، والمختار أن يقال : المتابعة سنة متأكدة يكره تركها لصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر بها ، وهذا يختص بالأول ; لأن الأمر لا يقتضي التكرار ، وأما أصل الفضيلة والثواب في المتابعة فلا يختص والله أعلم .



                                      [ ص: 127 ] فرع ) مذهبنا أن المتابعة سنة ليست بواجبة وبه قال جمهور العلماء ، وحكى الطحاوي خلافا لبعض السلف في إيجابها وحكاه القاضي عياض .



                                      ( فرع ) مذهبنا ومذهب الجمهور أنه يتابع المؤذن في جميع الكلمات . وعن مالك روايتان إحداها كالجمهور ، والثانية يتابعه إلى آخر الشهادتين فقط ; لأنه ذكر لله تعالى وما بعده بعضه ليس بذكر وبعضه تكرار لما سبق ، وحجة الجمهور حديث عمر رضي الله عنه .



                                      ( فرع ) لم أر لأصحابنا كلاما في أنه هل يستحب متابعة المؤذن في الترجيع أم لا ؟ ويحتمل أن يقال لا يستحب ; لأنه لا يسمعه ، ويحتمل أن يقال يستحب لقوله صلى الله عليه وسلم { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول } والترجيع مما يقول ، ولم يقل فقولوا مثل ما تسمعون ، وهذا الاحتمال أظهر وأحوط .



                                      ( فرع ) من رأى المؤذن وعلم أنه يؤذن ولم يسمعه لبعد أو صمم الظاهر أنه لا تشرع له المتابعة ; لأن المتابعة معلقة بالسماع ، والحديث مصرح باشتراطه ، وقياسا على تشميت العاطس فإنه لا يشرع إلا لمن يسمع تحميده . ( فرع ) لمن سمع المؤذن ولم يتابعه حتى فرغ ، لم أر لأصحابنا تعرضا له ; لأنه هل يستحب تدارك المتابعة ؟ والظاهر أنه يتدارك على القرب ولا يتدارك بعد طول الفصل ، وقد قال إمام الحرمين لو سمعه وهو في الصلاة فلم يتابعه ينبغي أن يأتي بالأذكار بمجرد السلام . فلو طال الفصل فهو كترك سجود السهو ، فيه تفصيل في موضعه .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أنه يكره للمصلي متابعته في الصلاة ، وسواء صلاة الفرض والنفل ، وبه قال جماعة من السلف . وعن مالك ثلاث روايات إحداها يتابعه ، والثانية يتابعه في النافلة دون الفرض .




                                      الخدمات العلمية