الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وأما الخائف من استعمال الماء ، فهو أن يكون به مرض أو قروح يخاف معها من استعمال الماء ، أو في برد شديد يخاف التلف من استعمال الماء ، فينظر فيه ، فإن خاف التلف من استعمال الماء جاز له التيمم لقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } قال ابن عباس رضي الله عنهما : " إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله عز وجل أو قروح أو جدري فيجنب فيخاف أن يغتسل فيموت فإنه يتيمم بالصعيد " . وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : { احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عمرو : وصليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فقال : سمعت الله تعالى يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ولم ينكر عليه } . وإن خاف الزيادة في المرض وإبطاء البرء قال في الأم : لا يتيمم ، وقال في القديم والبويطي والإملاء : يتيمم إذا خاف الزيادة ، فمن أصحابنا من قال : هما قولان .

                                      ( أحدهما ) : يتيمم ; لأنه يخاف الضرر من استعمال الماء فأشبه إذا خاف التلف ( والثاني ) : لا يجوز ; لأنه واجد للماء لا يخاف التلف من استعماله ، فأشبه إذا خاف أنه يجد البرد ، ومنهم من قال : لا يجوز قولا واحدا وما قاله في القديم والبويطي والإملاء محمول عليه إذا خاف زيادة مخوفة ، وحكى أبو علي في الإفصاح طريقا آخر أنه يتيمم قولا واحدا ، وإن خاف من استعمال الماء شيئا فاحشا في جسمه فهو كما لو خاف الزيادة في المرض ; لأنه يتألم قلبه بالشين الفاحش كما يتألم بزيادة المرض ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما قول ابن عباس رضي الله عنهما فرواه البيهقي موقوفا على ابن عباس ، ورواه مرفوعا أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                      وأما حديث عمرو بن العاص فرواه أبو داود والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين والبيهقي ، ولكن رووه من طريقين مختلفتي الإسناد والمتن ، متن إحداهما كما ذكره في المهذب ، ومتن الثانية أن عمرا احتلم فغسل مغابنه [ ص: 328 ] وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم " وذكر الباقي بمعنى ما سبق ولم يذكر التيمم ، قال الحاكم في الرواية الثانية : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم قال : والذي عندي أنهما عللاه بالرواية الأولى يعني لاختلافهما ، وهي قضية واحدة . قال الحاكم : ولا تعلل رواية التيمم رواية الوضوء ، فإن أهل مصر أعرف بحديثهم من أهل البصرة ، يعني : أن رواية الوضوء يرويها مصري عن مصري ، ورواية التيمم بصري عن مضري . قال البيهقي : ويحتمل أن يكون فعل ما نقل في الروايتين جميعا ، فغسل ما أمكنه وتيمم الباقي ، وهذا الذي قاله البيهقي متعين ; لأنه إذا أمكن الجمع بين الروايتين تعين . وقوله : مغابنه بفتح الميم وبغين معجمة ، وبعد الألف باء موحدة مكسورة ، والمراد بها هنا الفرج وما قاربه ، والقروح الجروح ونحوها ، واحدها قرح بفتح القاف وضمها ، والجدري بضم الجيم وفتحها لغتان فصيحتان ، والدال مفتوحة فيهما ، وإبطاء البرء هو بضم الباء وإسكان الراء ، وبعدها همزة ، يقال : برئ من المرض برءا بضم الباء ، وبرأ برءا بفتحها ، وبرأ برءا ثلاث لغات أفصحهن الثانية ، وهو مهموز فيهن . ومنهم من ترك الهمز تخفيفا ، وقوله أشفقت أي خفت ، وقوله : أهلك هو بكسر اللام هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن ، وحكى أبو البقاء فتحها وأنه قرئ به في الشواذ ، وهذا شاذ إن ثبت ، وذات السلاسل بفتح السين الأولى وكسر الثانية وهي من غزوات الشام ، وكان في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة وأميرها عمرو بن العاص قيل : سميت بذلك باسم ماء بأرض جذام يقال له المسلسل ، كذا ذكره ابن هشام في كتابه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره غيره ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أنها بفتح السين الأولى وهذا هو المشهور ، وقد حكي فيها الضم ، وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات . وعمرو بن العاص يكنىأبا عبد الله ، وقيل : أبا محمد وأسلم قبل الفتح بأشهر ، وقيل : أسلم بين الحديبية وخيبر . مات بمصر عاملا عليها سنة اثنتين ، وقيل : ثلاث وأربعين ، وقيل : إحدى وخمسين يوم الفطر وهو ابن [ ص: 329 ] سبعين سنة ، ويقال : ابن العاصي ، والعاص بإثبات الياء وحذفها ، وإثباتها هو الصحيح الفصيح وفي حديثه هذا فوائد . إحداها : جواز التيمم لخوف التلف مع وجود الماء . الثانية : جواز التيمم للجنب . الثالثة : أن التيمم لشدة البرد في السفر يسقط الإعادة . الرابعة : التيمم لا يرفع الحدث ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جنبا . الخامسة : جواز صلاة المتوضئ خلف المتيمم . السادسة : استحباب الجماعة للمسافرين . السابعة : أن صاحب الولاية أحق بالإمامة في الصلاة ، وإن كان غيره أكمل طهارة أو حالا منه . الثامنة : جواز قول الإنسان : سمعت الله يقول أو : الله يقول : كذا ، وقد كره هذه الصيغة مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي ، وقال : إنما يقال : قال الله بصيغة الماضي وهذا الذي قاله شاذ باطل ، ويرده الكتاب والسنة واستعمال الأمة ، وقد ذكرت دليله مبسوطا في كتاب أدب القراء وكتاب الأذكار .

                                      قال الله تعالى : { والله يقول الحق } . وفيه فضيلة لعمرو لحسن استنباطه من القرآن ، وفيه غير ذلك من الفوائد والله أعلم .

                                      ( أما أحكام المسألة ) فالمرض ثلاثة أضرب : ( أحدها ) : مرض يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفا ولا مرضا مخوفا ولا إبطاء برء ولا زيادة ألم ولا شيئا فاحشا ، وذلك كصداع ووجع ضرس وحمى وشبهها ، فهذا لا يجوز له التيمم بلا خلاف عندنا ، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكاه أصحابنا عن أهل الظاهر وبعض أصحاب مالك : أنهم [ ص: 330 ] جوزوه للآية ، دليلنا : أن التيمم رخصة أبيحت للضرورة فلا يباح بلا ضرورة ولا ضرورة هنا ، ولأن واجد الماء لا يخاف ضررا فلا يباح التيمم كما لو خاف ألم البرد دون تعقب ضرر . قال أصحابنا : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء } رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر وغيره ، فندب إلى الماء للحمى فلا تكون سببا لتركه والانتقال إلى التيمم ، والجواب عن الآية من وجهين . ( أحدهما ) : أن ابن عباس رضي الله عنهما فسرها بالجراحة ونحوها كما سبق ، وروى هذا التفسير مرفوعا كما سبق ، والجراحة ونحوها يخاف معها الضرر من الماء فلا يلحق بها غيرها .

                                      ( والثاني ) : أنها لو كانت عامة لخصصناها بما سبق .

                                      ( الضرب الثاني ) مرض يخاف معه من استعمال الماء تلف النفس أو عضو أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو ، فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء بلا خلاف بين أصحابنا إلا صاحب الحاوي ، فإنه حكى في خوف الشلل طريقين أحدهما : فيه قولان كما في خوف زيادة المرض ، وأصحهما : القطع بالجواز ، كما قاله الجمهور وإلا ما حكاه إمام الحرمين عن العراقيين أنهم نقلوا في جواز التيمم لمن خاف مرضا مخوفا قولين ، وهذا النقل عنهم مشكل ، فإن الموجود في كتبهم كلهم القطع بجواز التيمم لخوف حدوث مرض مخوف ، وقد أشار الرافعي أيضا إلى الإنكار على إمام الحرمين في هذا النقل هذا بيان مذهبنا . وحكى أصحابنا عن عطاء بن أبي رباح والحسن البصري أنهما قالا : لا يجوز التيمم للمريض إلا عند عدم الماء لظاهر الآية .

                                      دليلنا ما سبق من تفسير ابن عباس وحديث عمرو بن العاص ، وحديث الرجل الذي أصابته الشجة وغيره من الأدلة الظاهرة ، وأما الآية فحجة لنا وتقديرها والله أعلم وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا .

                                      ( الضرب الثالث ) : أن يخاف إبطاء البرء ، أو زيادة المرض وهي كثرة الألم وإن لم تطل مدته أو شدة الضنى ، وهو الداء الذي يخامر صاحبه ، وكلما ظن أنه برئ نكس ، وقيل : هو النحافة والضعف أو خاف حصول شين فاحش على عضو ظاهر وهو الذي يبدو في حال المهنة غالبا ، ففي هذه الصور [ ص: 331 ] النصوص ، والخلاف الذي ذكره المصنف وحاصله ثلاث طرق ، الصحيح منها : أن في المسألة قولين أصحهما : جواز التيمم ولا إعادة عليه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وأكثر العلماء لظاهر الآية وعموم البلوى ; ولأنه لا يجب شراء الماء بزيادة يسيرة لدفع الضرر ، والضرر هنا أشد ، ولأنه يجوز الفطر في ترك القيام في الصلاة بهذا النوع ودونه فههنا أولى . والقول الثاني : لا يجوز التيمم وبه قال عطاء والحسن وأحمد . والطريق الثاني : القطع بالجواز . والثالث : القطع بالمنع ، وحكى أصحابنا عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يجوز التيمم للشين الفاحش قطعا ، وإنما الخلاف في زيادة المرض وغيره مما سبق ، وحكى الماوردي عنه أنه على الخلاف ، وهذا هو الصحيح ودليله ما ذكره المصنف ثم الخلاف في شين فاحش على عضو ظاهر كما ذكرنا ; فأما " شين يسير على عضو ظاهر " كسواد قليل ، وشين كثير على عضو غير ظاهر فلا يبيح التيمم ; لأنه ليس فيه ضرر كثير فأشبه الصداع ونحوه والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا كانت العلة المرخصة في التيمم مانعة من استعمال الماء في جميع أعضاء الطهارة تيمم عن الجميع ، فإن منعت بعضا دون بعض غسل الممكن وتيمم عن الباقي ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في فصل تيمم الجريح .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصا في التيمم وأنه على الصفة المعتبرة على معرفة نفسه إن كان عارفا وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل ، فإن لم يمكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده ، وفيه وجه ضعيف أنه يجوز اعتماد قول صبي مراهق وبالغ فاسق ، لعدم التهمة ، حكاه صاحبا التتمة والتهذيب وغيرهما ، واتفقوا على أنه لا يعتمد الكافر ويقبل قول المرأة وحدها والعبد وحده ، هذا هو الصحيح المشهور .

                                      ، ورأيت في نسخة من تعليق القاضي حسين فيهما وجهين ، ويقبل قول واحد على المذهب ، وبه قطع القاضي حسين والمتولي والبغوي وغيرهم ، وحكى الرافعي عن أبي عاصم أنه حكى في اشتراط العدد وجها ، والصحيح الأول ; لأنه من باب الأخبار ، وإذا لم يجد طيبا بالصفة المشروطة [ ص: 332 ] فقد قال صاحب البحر ، قال أبو علي السنجي : لا يتيمم ، ولم يزد على هذا ولم أر لغيره موافقة له ولا مخالفة .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لا فرق في هذه المسائل في تيمم المريض بين المسافر والحاضر ولا بين الحدث الأصغر والأكبر ، ولا إعادة في شيء من هذه الصورة الجائزة بلا خلاف ، سواء فيه المسافر والحاضر لعمومه .

                                      ( فرع ) إذا تيمم للمرض ثم برأ في أثناء صلاته ، فهو كالمسافر يجد الماء في صلاته ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، قاله الدارمي والمحاملي في اللباب وغيرهما وهو ظاهر .

                                      ( فرع ) الأقطع والمريض الذي لا يخاف ضررا من استعمال الماء إذا وجد ماء ولم يقدر على استعماله فقد قدمنا في باب صفة الوضوء أنه يلزمه تحصيل من يوضئه بأجرة أو غيرها . فإن لم يجد وقدر على التيمم وجب عليه أن يتيمم ويصلي ثم يعيد ، كذا نص عليه الشافعي ، ونقله الشيخ عن نص الشافعي ولم يذكر غيره ، وكذا حكاه آخرون عن النص وصرح به أيضا جماعات من الأصحاب وكذا قال صاحب التهذيب في الزمن ، عندما لا يجد من يناوله يتيمم ويصلي ويعيد الصلاة ، وشذ صاحب البيان عن الأصحاب ، فقال : يصلي على حسب حاله ويعيد ، ولا يتيمم ; لأنه واجد للماء . وهذا الذي قاله غلط فاحش مخالف لنص الشافعي والأصحاب ، والدليل : لأنه عاجز عن استعماله فهو كما لو حال بينهما سبع ، وإنما وجبت الإعادة لندوره والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية