الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال أبو عبيدة والزجاج " التهلكة " الهلاك يقال : هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة . قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة بضم العين إلا هذا ، قال أبو علي : قد حكى سيبويه : التنصرة والتسترة ، وقد جاء هذا المثال اسما غير مصدر ، قال : ولا نعلمه جاء صفة . قال صاحب " الكشاف " : ويجوز أن يقال أصله التهلكة ، كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة ، كما جاء الجوار في الجوار .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : إني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به ، واتخذوه حجة قوية ، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة ، أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اتفقوا على أن الباء في قوله : ( بأيديكم ) تقتضي إما زيادة أو نقصانا ، فقال قوم : الباء زائدة ، والتقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة . وهو كقوله : جذبت الثوب بالثوب ، وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان ، أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله : ( بما قدمت يداك ) [ الحج : 10 ] أو ( فبما كسبت أيديكم ) [ الشورى : 30 ] ، فالتقدير : ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وقال آخرون : بل ههنا حذف ، والتقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) اختلف المفسرون فيه ، فمنهم من قال : إنه راجع إلى نفس النفقة ، ومنهم من قال : إنه راجع إلى غيرها ، أما الأولون فذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم ، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، وكأنه قيل : إن كنت من رجال الدين أنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته ، وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله ، فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس ، فكان المراد منه ما ذكره في قوله : [ ص: 117 ] ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : 67 ] وفي قوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29 ] وأما الذين قالوا : المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار ؛ فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله : ( ليهلك من هلك عن بينة ) [ الأنفال : 42 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : المراد من قوله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل ، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأما إذا كان آيسا من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول ، فليس له أن يقدم عليه ، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب ، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقل بين الصفين ، ومن الناس من طعن في هذا التأويل ، وقال : هذا القتل غير محرم ، واحتج عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : روي أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة ؛ فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا ومصالحنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : روى الشافعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة ، فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابرا محتسبا ؟ قال عليه الصلاة والسلام : لك الجنة ، فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله ، وأن رجلا من الأنصار ألقى درعا كانت عليه حين ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام - الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : روي أن رجلا من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه ، فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم ، فقال فيه قولا حسنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : روي أن قوما حاصروا حصنا ، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك فقال : كذبوا أليس يقول الله تعالى ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) [ البقرة : 207 ] ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول : إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم ، فأما إذا توقع فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : في تأويل الآية أن يكون هذا متصلا بقوله : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) [ البقرة : 194 ] أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص ، فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع في التأويل أن يكون المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلانا هالكا وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة ، فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط ، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة ، ونظيره قوله تعالى : [ ص: 118 ] ( ولا تبطلوا أعمالكم ) [ محمد : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية