الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام ( قل تعالوا ) [ الأنعام : 151 ] إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور ، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه ، وأقول : التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع ، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى ، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك ، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس ، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل ، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية ، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 148 ] القول الثاني : وهو أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ ، والمتشابه هو المنسوخ .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : قال الأصم : المحكم هو الذي يكون دليله واضحا لائحا ، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى : ( خلقنا النطفة علقة ) [ المؤمنون : 14 ] وقوله ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [ الأنبياء : 30 ] وقوله ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) [ البقرة : 22 ] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابا ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكما ; لأن من قدر على الإنشاء أولا قدر على الإعادة ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن كلام الأصم غير ملخص ، فإنه إن عنى بقوله : المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة ، والمتشابه ما لا يكون كذلك ، وهو إما المجمل المتساوي ، أو المؤول المرجوح ، فهذا هو الذي ذكرناه أولا ، وإن عنى به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل ، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل ، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل ، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابها ، لأن قوله ( خلقنا النطفة علقة ) [ المؤمنون : 14 ] أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية ، وإن أهل الطبيعة يقولون : السبب في ذلك الطبائع والفصول ، أو تأثيرات الكواكب ، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها ، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل ، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ، ولعل الأصم يقول : هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل ، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهرا بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادرا ، ومنها ما يكون الدليل فيه خفيا كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول : هو المحكم والثاني : هو المتشابه .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي ، أو بدليل خفي ، فذاك هو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه ، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة ، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ، ونظيره قوله تعالى : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) [ الأعراف : 187 ]

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية