الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن ، وقراءة الترجمة قراءة‏ القرآن ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال : ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ) [ الدخان : 43 ] وكان الرجل عجميا ، فكان يقول : طعام اليتيم ؛ فقال : قل : طعام الفاجر ، ثم قال عبد الله : إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم ، بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله تعالى : ( وإنه لفي زبر الأولين ) [ الشعراء : 196 ] فأخبر أن القرآن في زبر الأولين ، وقال تعالى : ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 18 ، 19 ] ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ ، لكن كان بالعبرانية والسريانية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى قال : ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ) [ الأنعام : 19 ] ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم ، ثم إنه تعالى سماه قرآنا ، فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول أن نقول : إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا ، فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن [ ص: 175 ] مسعود ، ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا ، بل تقول : إن القائل به شاك في دينه ، والشاك لا يكون مؤمنا ، فإن كان قول ابن مسعود حجة ، فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة ؟ وإن لم يكن حجة ، فلم عول عليه في هذه المسألة ؟ ولعمري هذه المناقضات عجيبة ، وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ، ويجب علينا إحسان الظن به ؛ وأن نقول : إنه رجع عن هذه المذاهب ، وأما قوله تعالى : ( وإنه لفي زبر الأولين ) [ الشعراء : 196 ] فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين ، وقوله تعالى : ( لأنذركم ) [ الأنعام : 19 ] فالمعنى لأنذركم معناه ، وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية عشرة : قال الشافعي في القول الجديد : تجب القراءة على المقتدي ؛ سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها ، وقال في القديم : تجب القراءة إذا أسر الإمام ، ولا تجب إذا جهر ، وهو قول مالك وابن المبارك ، وقال أبو حنيفة : تكره القراءة خلف الإمام بكل حال ، ولنا وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : قوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة ، فيجب علينا ذلك لقوله تعالى : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] إلا أن يقال : إن كونه مأموما يمنع منه إلا أنه معارضة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أنا بينا أن قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة ) [ البقرة : 43 ] أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها ، ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة ، فكان قوله : " أقيموا الصلاة " يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : قوله عليه السلام : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وقد ثبت تقرير وجه الدليل .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد ؛ لأنه روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل ، إلا أن يكون وراء الإمام . قلنا : هذا الحديث طعنوا فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة : قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي علمه أعمال الصلاة : " ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " وهذا يتناول المنفرد والمأموم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة : روى أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت قال : قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : ما لي أراكم تقرأون خلف إمامكم ، قلنا : إي والله ، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ، قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السابعة : روى مالك في الموطأ ، عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تام ، قال : فقلت يا أبا هريرة ، إني أكون أحيانا خلف الإمام ، قال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، [ ص: 176 ] والاستدلال بهذا الخبر من وجهين : الأول : أن صلاة المقتدي بدون القراءة مبررة عن الخداج عند الخصم ، وهو على خلاف النص . الثاني : أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة ، وذلك يؤيد المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثامنة : روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى يقول : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة ، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة ، وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة التاسعة : روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة ، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال : هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة ؟ فقال بعضنا : إنا لنصنع ذلك ، فقال : وأنا أقول مالي أنازع القرآن ، لا تقرأوا شيئا من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة العاشرة : أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم ، وهي متناولة للمنفرد والمقتدي ، فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم ، وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الحادية عشرة : وافق أبو حنيفة رضي الله عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة ، وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة ، فثبت أن القراءة أحوط ، فكانت واجبة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية عشرة : إذا بقي المقتدي ساكتا عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلا ، فوجب أن يكون حال القارئ أفضل منه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " أفضل الأعمال قراءة القرآن " وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب ؛ لأنه لا قائل بالفرق .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة عشرة : لو كان الاقتداء مانعا من القراءة لكان الاقتداء حراما ؛ لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة ، والمانع من العبادة الشريفة محرم ، فيلزمه أن يكون الاقتداء حراما ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية