الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            الوجه الثاني : المقرر في فن الحديث والأصول أن ما روي مما لا مجال للرأي فيه كأمور البرزخ والآخرة فإن حكمه الرفع لا الوقف ، وإن لم يصرح الراوي بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال العراقي في الألفية :


            وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على     ما قال في المحصول نحو من أتى
            فالحاكم الرفع لهذا أثبتا

            وقال في شرحها : ما جاء من صحابي موقوفا عليه ومثله لا يقال الرأي حكمه حكم المرفوع ، كما قال الإمام فخر الدين في " المحصول " فقال : إذا قال الصحابي قولا ليس للاجتهاد فيه مجال فهو محمول على السماع تحسينا للظن به ،كقول ابن مسعود : من أتى ساحرا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ترجم عليه الحاكم في علوم الحديث : معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ومثال ذلك ، فذكر ثلاثة أحاديث هذا أحدها ، وما قاله في المحصول موجود في كلام غير واحد من الأئمة كأبي عمر بن عبد البر وغيره ، وقد أدخل ابن عبد البر في كتابه " التقصي " عدة أحاديث ذكرها مالك في " الموطأ " موقوفة مع أن موضوع الكتاب لما في " الموطأ " من الأحاديث المرفوعة ، منها حديث سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف ، وقال في " التمهيد " : هذا الحديث موقوف على سهل في " الموطأ " عند جماعة الرواة عن مالك . قال : ومثله لا يقال من جهة الرأي . انتهى كلام العراقي في " شرح الألفية " .

            وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر في " شرح النخبة " : مثال المرفوع من القول حكما ما يقوله الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه ، ولا تعلق له ببيان لغة أو شرح غريب ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء ، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة ، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، قال : وإنما كان له حكم المرفوع ؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له ، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفا للقائل به ، ولا موقف للصحابة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو مرفوع ، مثال المرفوع من الفعل حكما أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد فيه ، فينزل على أن ذلك عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام الشافعي رضي [ ص: 218 ] الله عنه في صلاة علي في الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين . انتهى كلام شارح النخبة .

            وقال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح : ما قاله الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه فحكمه الرفع ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق ، وقصص الأنبياء ، وعن الأمور الآتية كالملاحم ، والفتن ، والبعث ، وصفة الجنة والنار ، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع .

            قال أبو عمرو الداني : قد يحكي الصحابي قولا يوقفه ، فيخرجه أهل الحديث في المسند لامتناع أن يكون الصحابي ما قاله إلا بتوقف ، كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة قال : نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، لا يجدن عرف الجنة الحديث ؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي ، فيكون من جملة المسند .

            قال الحافظ ابن حجر : وهذا هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصاحبي الصحيح ، والإمام الشافعي ، وأبي جعفر الطبري ، وأبي جعفر الطحاوي ، وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند ، والبيهقي ، وابن عبد البر في آخرين ، قال : وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند ، وبذلك جزم الحاكم في علوم الحديث ، والإمام فخر الدين في المحصول انتهى .

            وعبارة المحصول : إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه حمل على السماع ؛ لأنه إذا لم يكن من محل الاجتهاد فلا طريق إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى .

            وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في " شرح الترمذي " : ما رواه المصنف عن عمر بن الخطاب أن الدعاء موقوف بين السماء والأرض ، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك ، هو وإن كان موقوفا عليه ، فمثله لا يقال من قبل الرأي ، وإنما هو أمر توقيفي ، فحكمه حكم المرفوع كما صرح به جماعة من الأئمة وأهل الحديث والأصول ، فمن الأئمة الشافعي رضي الله عنه ، ونص عليه في بعض كتبه كما نقل عنه ، ومن أهل الحديث أبو عمر بن عبد البر ، فأدخل في " كتاب التقصي " أحاديث من أقوال الصحابة ، مع أن موضوع كتابه للأحاديث المرفوعة ، من ذلك حديث سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف ، وقال في " التمهيد " : هذا الحديث موقوف على سهل في " الموطأ " عند جماعة الرواة عن مالك ، ومثله لا يقال من جهة الرأي ، وكذلك فعل الحاكم أبو عبد الله في كتابه في علوم [ ص: 219 ] الحديث ، فقال في النوع السادس من معرفة الحديث : معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم روى فيه ثلاثة أحاديث :

            قول ابن عباس : كنا نتمضمض من اللبن ولا نتوضأ منه .

            وقول أنس : كان يقال في أيام العشر : كل يوم ألف يوم ، ويوم عرفة عشرة آلاف يوم ، قال : يعني في الفضل .

            وقول عبد الله بن مسعود : من أتى ساحرا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

            قال : فهذا وأشباهه إذا قاله الصحابي فهو حديث مسند ، وكل ذلك مخرج في المسانيد .

            ومن الأصوليين الإمام فخر الدين الرازي ، فقال في كتابه " المحصول " : إذا قال الصحابي قولا ليس للاجتهاد فيه مجال فهو محمول على السماع .

            وقال القاضي أبو بكر بن العربي عقب ذكره لقول عمر : ومثل هذا إذا قاله عمر لا يكون إلا توقيفا ؛ لأنه لا يدرك بنظر ، انتهى .

            هذا كله إذا صدر ذلك من الصحابي فيكون مرفوعا متصلا ، فإن صدر ذلك من التابعي فهو مرفوع مرسل ، كما ذكر ابن الصلاح ذلك في نظير المسألة ، وصرح البيهقي في هذه المسألة بخصوصها ، فإنه أخرج في شعب الإيمان بسنده عن أبي قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب ، ثم قال : هذا القول عن أبي قلابة ، وهو من التابعين ، فمثله لا يقول ذلك إلا عن بلاغ ممن فوقه عمن يأتيه الوحي .

            وأخرج البيهقي أيضا في " شعب الإيمان " بسنده عن أبي قلابة قال : من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ، ومن قرأ الكهف في يوم الجمعة حفظ من الجمعة إلى الجمعة ، وإن أدرك الدجال لم يضره ، وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن قرأ يس غفر له ، ومن قرأها وهو جائع شبع ، ومن قرأها وهو ضال هدي ، ومن قرأها وله ضالة وجدها ، ومن قرأها عند طعام خاف قلته كفاه ، ومن قرأها عند ميت هون عليه ، ومن قرأها عند والدة عسر عليها ولدها يسر عليها ، ومن قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة ، ولكل شيء قلب ، وقلب القرآن يس .

            ثم قال عقبه : هكذا نقل إلينا عن أبي قلابة ، وهو من كبار التابعين ، ولا نقول ذلك إن صح عنه إلا بلاغا .

            وروى الإمام مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول : إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله .

            قال ابن عبد البر : هذا له حكم المرفوع ؛ إذ يستحيل أن يكون مثله رأيا ، ويحيى بن سعيد من صغار التابعين ، وروى مالك في الموطأ أيضا عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : [ ص: 220 ] من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك ، فإن أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال .

            قال بعضهم : هذا لا يقال بالرأي فهو مرفوع .

            وهذا استدل به السبكي في " الحلبيات " على حصول فضيلة الجماعة بذلك ، وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال : صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء ، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد - أورده الحافظ ابن حجر في " شرح البخاري " في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : " فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة " وقال : مثله لا يقال بالرأي ، فالمصير إليه أولى ، وعكرمة تابعي ، وهذا الأثر الذي نحن فيه من ذلك ، فإنه من أحوال البرزخ التي لا مدخل للرأي والاجتهاد فيها ، ولا طريق إلى معرفتها إلا بالتوقيف والبلاغ عمن يأتيه الوحي ، وقد قال ذلك عبيد بن عمير وطاوس ، وهما من كبار التابعين ، فيكون حكمه حكم الحديث المرفوع المرسل ، وإن ثبتت صحبة عبيد بن عمير فحكمه حكم المرفوع المتصل .

            قال ابن عبد البر في " التمهيد " في شرح حديث فتنة القبر وسؤاله : أحكام الآخرة لا مدخل فيها للقياس ، والاجتهاد ، ولا للنظر والاحتجاج ، والله يفعل ما يشاء لا شريك له .

            وقال القرطبي في " التذكرة " : هذا الباب ليس فيه مدخل للقياس ، ولا مجال للنظر فيه ، وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد ، انتهى .

            ويؤيد ما ذكرناه أن هذه الأمور إذا صدرت من التابعين تحمل على الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه ابن أبي الدنيا بسنده ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : كان علي بن حسين يذكر أن العبد إذا احتمل إلى قبره نادى حملته إذا بشر بالنار فيقول : يا إخوتاه ، ما علمتم ما عاينت بعدكم ، إن أخاكم بشر بالنار ، فيا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله ، أنشد بالله كل ولد أو جار أو صديق أو أخ إلا احتبسني عن قبري ، فإنه ليس بين صاحبكم وبين النار إلا أن تواروه في التراب ، والملائكة ينادون : امض عدو الله ، فإذا دنا من حفرته يقول : ما لي من شفيع مطاع ولا صديق حميم ، ثم إذا أدخل القبر ضرب ضربة تذعر لها كل دابة غير الجن والإنس .

            وأما ولي الله إذا احتمل إلى قبره وبشر بالجنة نادى حملته : يا إخوتاه ، أما علمتم أني بشرت بعدكم بالرضا من الله ، والجنة والنجاة من سخط الله والنار ، فعجلوا بي إلى حفرتي ف ( ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) ، والملائكة ينادون : امض ولي الله إلى رب كريم يثيب بالشيء اليسير العظيم [ ص: 221 ] الجزيل ، اللهم اجعلها غدوة أو روحة إلى الجنة ، فإذا أدخل القبر تلقي بحزمة من ريحان الجنة ، يجد ريحها كل ذي ريح غير الإنس والجن .


            قال أبو جعفر : كان علي بن حسين إذا ذكر أشباه هذا الحديث بكى ثم يقول : إني لأخاف الله أن أكتمه ، ولئن أظهرته ليدخلن علي أذى من الفسقة ، وذلك أن علي بن حسين ذكر حديث الذي ينادي حملته ، فقال ضمرة بن معبد - رجل من بني زهرة - والله يا علي بن حسين لو أن الميت يفعل كما زعمت بمناشدتك حملته إذا لوثب عن أيدي الرجل من سريره ، فضحك أناس من الفسقة ، وغضب علي بن حسين وقال : اللهم إن ضمرة كذب بما جاء به محمد رسولك ، فخذه أخذ أسف ، فما لبث ضمرة إلا أربعين ليلة حتى مات فجأة .

            قال أبو جعفر : فأشهد على مسلم بن شعيب مولاه - وكان ما علمناه خيارا - أنه أتى علي بن حسين ليلا فقال : أشهد أني سمعت ضمرة أعرفه كما كنت أعرف صوته حيا وهو ينادي في قبره : ويل طويل لضمرة إلا أن يتبرأ منك كل خليل ، وحللت في نار الجحيم فيها مبيتك والمقيل ، فقال علي بن حسين : نسأل الله العافية ، هذا جزاء من ضحك وأضحك الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

            فانظر كيف ذكر علي بن حسين الحديث أولا من غير تصريح بعزوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، اتكالا على علم ذلك ؛ لأنه ليس مما يقال من قبل الرأي ، وإنما معتمده التوقيف والسماع ، ثم لما وقعت هذه القصة صرح بأنه حديث جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالجملة فالحكم على مثل هذا بالرفع من الأمور التي أجمع عليها أهل الحديث .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية