الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 178 ] أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وقع السؤال : قد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ، فظاهره مفارقة الروح [ له ] في بعض الأوقات فكيف الجمع ؟ وهو سؤال حسن يحتاج إلى النظر والتأمل .

            فأقول : حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك وتواترت [ به ] الأخبار ، وقد ألف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء في قبورهم ، فمن الأخبار الدالة على ذلك ما أخرجه مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بموسى عليه السلام وهو يصلي في قبره ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر موسى عليه السلام وهو قائم يصلي فيه ، وأخرج أبو يعلى في مسنده ، والبيهقي في كتاب حياة الأنبياء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن يوسف بن عطية قال : سمعت ثابتا البناني يقول لحميد الطويل : هل بلغك أن أحدا يصلي في قبره إلا الأنبياء ؟ قال : لا ، وأخرج أبو داود والبيهقي عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي الصلاة فيه ، فإن صلاتكم تعرض علي ، قالوا : يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ يعني : بليت ، فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان ، والأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته .

            وأخرج البخاري في تاريخه عن عمار سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن لله تعالى ملكا أعطاه أسماع الخلائق قائم على قبري فما من أحد يصلي علي صلاة إلا بلغتها ، وأخرج البيهقي في حياة الأنبياء ، والأصبهاني في الترغيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى علي مائة في يوم الجمعة وليلة الجمعة ، قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا ، ثم وكل الله بذلك ملكا يدخله علي في قبري كما [ ص: 179 ] يدخل عليكم الهدايا ، إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة ، ولفظ البيهقي : يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه ، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء ، وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور ، وروى سفيان الثوري في الجامع قال : قال شيخ لنا : عن سعيد بن المسيب قال : ما مكث نبي في قبره أكثر من أربعين حتى يرفع ، قال البيهقي : فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله ، ثم قال البيهقي : ولحياة الأنبياء بعد موتهم شواهد ، فذكر قصة الإسراء في لقيه جماعة من الأنبياء وكلمهم وكلموه ، وأخرج حديث أبي هريرة في الإسراء وفيه : وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم .

            وأخرج حديث : " إن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق " ، وقال : هذا إنما يصح على أن الله رد على الأنبياء أرواحهم وهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار ، انتهى ، وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ، ثم لئن قام على قبري ، فقال : يا محمد لأجيبنه ، وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن سعيد بن المسيب قال : لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر .

            وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن سعيد بن المسيب قال : لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحرة حتى عاد الناس ، وأخرج ابن سعد في الطبقات عن سعيد بن المسيب أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون قال : فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانا يخرج من قبل القبر الشريف ، وأخرج الدارمي في سنده قال : أنبأنا مروان بن محمد عن سعيد بن عبد العزيز قال : لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولم يقم ، ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، فهذه الأخبار دالة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء ، وقد قال تعالى في الشهداء : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ ص: 180 ] والأنبياء أولى بذلك ، فهم أجل وأعظم ، وما نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة ، فيدخلون في عموم لفظ الآية .

            وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، والطبراني ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن مسعود قال : لإن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل ، وذلك أن الله اتخذه نبيا واتخذه شهيدا ، وأخرج البخاري ، والبيهقي عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه : لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم ، فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حيا في قبره بنص القرآن ، إما من عموم اللفظ ، وإما من مفهوم الموافقة ، قال البيهقي في كتاب الاعتقاد : الأنبياء بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، وقال القرطبي في التذكرة في حديث الصعقة نقلا عن شيخه : الموت ليس بعدم محض ، وإنما هو انتقال من حال إلى حال ، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء يرزقون فرحين مستبشرين وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا في الشهداء فالأنبياء أحق بذلك وأولى ، وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء ، ورأى موسى قائما يصلي في قبره وأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه يرد السلام على كل من يسلم عليه ، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء ، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته من أوليائه ، انتهى ، وسئل البارزي عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حي بعد وفاته ؟ فأجاب : إنه صلى الله عليه وسلم حي .

            قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي الفقيه الأصولي شيخ الشافعية في أجوبة مسائل الجاجرميين قال : المتكلمون المحققون من أصحابنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم حي بعد وفاته ، وأنه يسر بطاعات أمته ويحزن بمعاصي العصاة منهم ، وأنه تبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته ، وقال : إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئا ، وقد مات موسى في زمانه وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه رآه في قبره مصليا ، وذكر في حديث المعراج أنه رآه في السماء الرابعة وأنه رأى آدم في السماء الدنيا ، ورأى إبراهيم وقال له [ ص: 181 ] مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، وإذا صح لنا هذا الأصل قلنا : نبينا صلى الله عليه وسلم قد صار حيا بعد وفاته وهو على نبوته ، هذا آخر كلام الأستاذ .

            وقال الحافظ شيخ السنة أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد : الأنبياء عليهم السلام بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، وقد رأى نبينا صلى الله عليه وسلم جماعة منهم وأمهم في الصلاة وأخبر - وخبره صدق - أن صلاتنا معروضة عليه ، وأن سلامنا يبلغه ، وأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، قال : وقد أفردنا لإثبات حياتهم كتابا قال : وهو بعدما قبض نبي الله ورسوله وصفيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم ، اللهم أحينا على سننه وأمتنا على ملته واجمع بيننا وبينه في الدنيا والآخرة ، إنك على كل شيء قدير ، انتهى جواب البارزي .

            وقال الشيخ عفيف الدين اليافعي : الأولياء ترد عليهم أحوال يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى عليه السلام في قبره ، قال : وقد تقرر أن ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي ، قال : ولا ينكر ذلك إلا جاهل ، ونصوص العلماء في حياة الأنبياء كثيرة فلنكتف بهذا القدر .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية