الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحا أو التزاما

            الحديث الأول : أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر .

            [ ص: 467 ] الحديث الثاني : أخرج البزار ، والحاكم في المستدرك وصححه عن جابر قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض ، فارتعوا في رياض الجنة " ، قالوا : وأين رياض الجنة ؟ قال : " مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله " .

            الحديث الثالث : أخرج مسلم والحاكم - واللفظ له - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله ملائكة سيارة وفضلاء ، يلتمسون مجالس الذكر في الأرض ، فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضهم بعضا بأجنحتهم إلى السماء ، فيقول الله : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك ، فيقول : ما يسألون ؟ وهو أعلم ، فيقولون : يسألونك الجنة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا يا رب ، فيقول : فكيف لو رأوها ، ثم يقول : ومم يستجيروني ؟ وهو أعلم بهم ، فيقولون : من النار ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا ، فيقول : فكيف لو رأوها ؟ ثم يقول : اشهدوا أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوني وأجرتهم مما استجاروني ، فيقولون : ربنا ، إن فيهم عبدا خطاء جلس إليهم وليس منهم ، فيقول : وهو أيضا قد غفرت له ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " .

            الحديث الرابع : أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " .

            الحديث الخامس : أخرج مسلم والترمذي عن معاوية " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده ، فقال : إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة " .

            الحديث السادس : أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون " .

            الحديث السابع : أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الجوزاء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون : إنكم مراءون " مرسل ، ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أن ذلك إنما يقال عند الجهر دون الإسرار .

            الحديث الثامن : أخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مررتم برياض [ ص: 468 ] الجنة فارتعوا " قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنة ؟ قال : " حلق الذكر " .

            الحديث التاسع : أخرج بقي بن مخلد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه ، والآخر يعلمون العلم ، فقال : " كلا المجلسين خير ، وأحدهما أفضل من الآخر " .

            الحديث العاشر : أخرج البيهقي عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء : قوموا مغفورا لكم ، قد بدلت سيئاتكم حسنات " .

            الحديث الحادي عشر : أخرج البيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الرب تعالى يوم القيامة : سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم ، فقيل : ومن أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال : مجالس الذكر في المساجد " .

            الحديث الثاني عشر : أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه : يا فلان ، هل مر بك اليوم لله ذاكر ؟ فإن قال : نعم ، استبشر ، ثم قرأعبد الله : ( لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه ) الآية ، وقال : أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير ؟

            الحديث الثالث عشر : أخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله : ( فما بكت عليهم السماء والأرض ) قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر الله فيه ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال : إن المؤمن إذا مات نادت بقاع الأرض : عبد الله المؤمن مات ، فتبكي عليه الأرض والسماء ، فيقول الرحمن : ما يبكيكما على عبدي ؟ فيقولون : ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكرك . وجه الدلالة من ذلك أن سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به .

            الحديث الرابع عشر : أخرج البزار والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : عبدي ، إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكثر " .

            الحديث الخامس عشر : أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم قال : قال ابن الأدرع : [ ص: 469 ] انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ، فمر برجل في المسجد يرفع صوته ، قلت : يا رسول الله ، عسى أن يكون هذا مرائيا ، قال : " لا ، ولكنه أواه " . وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له : ذو البجادين : إنه أواه ، وذلك أنه كان يذكر الله ، وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل : لو أن هذا خفض من صوته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعه فإنه أواه " .

            الحديث السادس عشر : أخرج الحاكم عن شداد بن أوس قال : " إنا لعند النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : ارفعوا أيديكم فقولوا : لا إله إلا الله ، ففعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة ، إنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال : أبشروا فإن الله قد غفر لكم " .

            الحديث السابع عشر : أخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر ، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ، فيقول الله تعالى : غشوهم برحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم " .

            الحديث الثامن عشر : أخرج الطبراني وابن جرير عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية ، فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " .

            الحديث التاسع عشر : أخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال : " كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا فقال : ما كنتم تقولون ؟ قلنا : نذكر الله ، قال : إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ، ثم قال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " .

            الحديث العشرون : أخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي رزين العقيلي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة ؟ قال : بلى ، قال : عليك بمجالس الذكر ، وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله " .

            [ ص: 470 ] الحديث الحادي والعشرون : أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي والأصبهاني عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها " .

            الحديث الثاني والعشرون : أخرج الشيخان عن ابن عباس قال : إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته .

            الحديث الثالث والعشرون : أخرج الحاكم عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبنى له بيتا في الجنة " وفي بعض طرقه : " فنادى " .

            الحديث الرابع والعشرون : أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن السائب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاءني جبريل فقال : مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير .

            الحديث الخامس والعشرون : أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران ، لا يأتيان السوق إلا لذلك ، وأخرج أيضا عن عبيد بن عمير قال : كان عمر يكبر في قبته فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل السوق ، حتى ترتج منى تكبيرا ، وأخرج أيضا عن ميمون بن مهران قال : أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها .

            فصل : إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر ، بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحا أو التزاما ، كما أشرنا إليه ، وأما معارضته بحديث : " خير الذكر الخفي " فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث : " المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام ، والجهر أفضل في غير ذلك ؛ لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ، ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط ، وقال بعضهم : يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار [ ص: 471 ] ببعضها ؛ لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر ، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار . انتهى ، وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل ، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث .

            فإن قلت : قال الله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ) قلت : الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه :

            الأول : أنها مكية كآية الإسراء : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله ، فأمر بترك الجهر سدا للذريعة ، كما نهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) وقد زال هذا المعنى ، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره .

            الثاني : أن جماعة من المفسرين ، منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك ، وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن ، وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات ، ويقويه اتصالها بقوله : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قلت : وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة ، فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله ، ولذا ختم الآية بقوله : ( ولا تكن من الغافلين )

            . الثالث : ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل ، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الردية فمأمور بالجهر ؛ لأنه أشد تأثيرا في دفعها ، قلت : ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته ؛ فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته ، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته ، وإنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين " .

            فإن قلت : فقد قال تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء ، قلت : الجواب عنه من وجهين :

            أحدهما : أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع ، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامة رضي الله عنه " أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة ، فقال : إني سمعت [ ص: 472 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء " فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد .

            الثاني : على تقدير التسليم ، فالآية في الدعاء لا في الذكر ، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار ؛ لأنه أقرب إلى الإجابة ، ولذا قال تعالى : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) ومن ثم استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقا ؛ لأنها دعاء ، فإن قلت : فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال : ما أراكم إلا مبتدعين ، حتى أخرجهم من المسجد . قلت : هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم ، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة ، وهي مقدمة عليه عند التعارض ، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود ، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد : ثنا حسين بن محمد ، ثنا المسعودي ، عن عامر بن شقيق ، عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ، ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا ذكر الله فيه . وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال : إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله ، وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال ، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية