الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى

روى البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى ، وإني لأسبحها ) وروى أيضا من حديث [ ص: 331 ] مورق العجلي : ( قلت لابن عمر : أتصلي الضحى؟ قال : لا ، قلت : فعمر؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر؟ قال : لا . قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال : لا . إخاله )

وذكر عن ابن أبي ليلى قال : ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ ، فإنها قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم ( دخل بيتها يوم فتح مكة ، فاغتسل ، وصلى ثمان ركعات ، فلم أر صلاة قط أخف منها ، غير أنه يتم الركوع والسجود )

وفي "صحيح مسلم " ، عن عبد الله بن شقيق قال : ( سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت : لا ، إلا أن يجيء من مغيبه .

قلت : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بين السور؟ قالت : من المفصل
)

وفي "صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ، ويزيد ما شاء الله ) وفي "الصحيحين" عن أم هانئ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صلى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى ) .

وقال الحاكم في "المستدرك" : حدثنا الأصم ، حدثنا الصغاني ، حدثنا ابن [ ص: 332 ] أبي مريم ، حدثنا بكر بن مضر ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن بكر بن الأشج ، عن الضحاك بن عبد الله ، عن أنس رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سفر سبحة الضحى ، صلى ثمان ركعات ، فلما انصرف ، قال : ( إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، فسألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة ، سألته ألا يقتل أمتي بالسنين ففعل ، وسألته ألا يظهر عليهم عدوا ، ففعل ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي ) قال الحاكم : صحيح . قلت : الضحاك بن عبد الله هذا ينظر من هو وما حاله؟

وقال الحاكم في كتاب "فضل الضحى" : حدثنا أبو بكر الفقيه ، أخبرنا بشر بن يحيى ، حدثنا محمد بن صالح الدولابي ، حدثنا خالد بن عبد الله بن الحصين ، عن هلال بن يساف ، عن زاذان ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى ، ثم قال : ( اللهم اغفر لي ، وارحمني ، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم الغفور ) حتى قالها مائة مرة

حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أسد بن عاصم ، حدثنا الحصين بن حفص ، عن سفيان ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( صلى الضحى ركعتين ، وأربعا ، وستا وثمانيا )

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري ، حدثتنا عائشة بنت سعد ، عن أم ذرة ، قالت : رأيت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى وتقول : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلا أربع [ ص: 333 ] ركعات .

وقال الحاكم أيضا : أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا أبو عوانة ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن مرة ، عن عمارة بن عمير ، عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى .

قال الحاكم أيضا : حدثنا إسماعيل بن محمد ، حدثنا محمد بن عدي بن كامل ، حدثنا وهب بن بقية الواسطي ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن محمد بن قيس ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ( صلى الضحى ست ركعات ) .

ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي ، حدثنا عيسى بن موسى ، عن جابر عن عمر بن صبح ، عن مقاتل بن حيان ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ، قالتا : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة ) وذكر حديثا طويلا .

وقال الحاكم : أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي ، حدثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، [ ص: 334 ] عن علي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ( كان يصلي الضحى ) .

وبه إلى أبي الوليد . حدثنا أبو عوانة ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن مرة ، عن عمارة بن عمير العبدي ، عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، أنه ( رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ) .

قال الحاكم : وفي الباب عن أبي سعيد الخدري ، وأبي ذر الغفاري ، وزيد بن أرقم ، وأبي هريرة ، وبريدة الأسلمي ، وأبي الدرداء ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وعتبان بن مالك ، وأنس بن مالك ، وعتبة بن عبد الله السلمي ، ونعيم بن همار الغطفاني ، وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم ، ومن النساء : عائشة بنت أبي بكر ، وأم هانئ ، وأم سلمة رضي الله عنهن ، كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها .

وذكر الطبراني من حديث علي ، وأنس ، وعائشة ، وجابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يصلي الضحى ست ركعات )

فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق ، منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادة علم خفيت على النافي . قالوا : وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس ، ويوجد عند الأقل . قالوا : [ ص: 335 ] وقد أخبرت عائشة ، وأنس ، وجابر ، وأم هانئ ، وعلي بن أبي طالب ، أنه صلاها . قالوا : ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوصية بها ، والمحافظة عليها ، ومدح فاعلها ، والثناء عليه ، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( أوصاني خليلي محمد صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام ) .

وفي "صحيح مسلم " نحوه عن أبي الدرداء .

وفي "صحيح مسلم " عن أبي ذر يرفعه ، قال ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) .

وفي "مسند الإمام أحمد " ، عن معاذ بن أنس الجهني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا ، غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )

وفي الترمذي ، و "سنن ابن ماجه " عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حافظ على سبحة الضحى ، غفر له ذنوبه وإن كانت [ ص: 336 ] مثل زبد البحر )

وفي "المسند" والسنن ، عن نعيم بن همار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله عز وجل : يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره ) ورواه الترمذي من حديث أبي الدرداء ، وأبي ذر .

وفي "جامع الترمذي " و "سنن ابن ماجه " ، عن أنس مرفوعا ( من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة ، بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة ) .

وفي "صحيح مسلم " ، عن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى في مسجد قباء ، فقال : أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) .

وقوله : ترمض الفصال أي : يشتد حر النهار ، فتجد الفصال حرارة الرمضاء . وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم ( صلى الضحى في بيت عتبان بن مالك [ ص: 337 ] ركعتين ) .

وفي "مستدرك" الحاكم من حديث خالد بن عبد الله الواسطي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب ) وقال : "هذا إسناد قد احتج بمثله مسلم بن الحجاج ، وأنه حدث عن شيوخه ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ) قال : ولعل قائلا يقول : قد أرسله حماد بن سلمة ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن محمد بن عمرو ، فيقال له : خالد بن عبد الله ثقة ، والزيادة من الثقة مقبولة .

ثم روى الحاكم : حدثنا عبدان بن يزيد ، حدثنا محمد بن المغيرة السكري ، حدثنا القاسم بن الحكم العرني ، حدثنا سليمان بن داود اليمامي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للجنة بابا يقال له باب الضحى ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى ، هذا بابكم ، فادخلوه برحمة الله" .

[ ص: 338 ] وقال الترمذي في "الجامع" : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني موسى بن فلان ، عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة ، بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة )

قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وكان أحمد يرى أصح شيء في هذا الباب حديث أم هانئ . قلت : وموسى ابن فلان هذا ، هو موسى بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك .

وفي "جامعه" أيضا من حديث عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول : لا يدعها ، ويدعها حتى نقول : لا يصليها ) قال : هذا حديث حسن غريب .

وقال الإمام أحمد في "مسنده" : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن الحارث الذماري ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر ، كان له كأجر الحاج المحرم ، ومن مشى إلى سبحة الضحى كان له كأجر المعتمر ، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ) قال أبو أمامة : ( الغدو والرواح إلى هذه المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل )

[ ص: 339 ] وقال الحاكم : حدثنا أبو العباس ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، حدثنا أبو المورع محاضر بن المورع ، حدثنا الأحوص بن حكيم ، حدثني عبد الله بن عامر الألهاني ، عن منيب بن عيينة بن عبد الله السلمي ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( من صلى الصبح في مسجد جماعة ، ثم ثبت فيه حتى الضحى ، ثم يصلي سبحة الضحى ، كان له كأجر حاج أو معتمر تام له حجته وعمرته ) .

وقال ابن أبي شيبة : حدثني حاتم بن إسماعيل ، عن حميد بن صخر ، عن المقبري ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا ، فأعظموا الغنيمة ، وأسرعوا الكرة . فقال رجل : يا رسول الله! ما رأينا بعثا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث ، فقال : ( ألا أخبركم بأسرع كرة ، وأعظم غنيمة : رجل توضأ في بيته فأحسن وضوءه ، ثم عمد إلى المسجد ، فصلى فيه صلاة الغداة ، ثم أعقب بصلاة الضحى ، فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة ) .

وفي الباب أحاديث سوى هذه ، لكن هذه أمثلها . قال الحاكم : صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأثبات ، فوجدتهم يختارون هذا العدد ، يعني أربع ركعات ، ويصلون هذه الصلاة أربعا ، لتواتر الأخبار الصحيحة فيه [ ص: 340 ] وإليه أذهب ، وإليه أدعو اتباعا للأخبار المأثورة ، واقتداء بمشايخ الحديث فيه .

قال ابن جرير الطبري - وقد ذكر الأخبار المرفوعة في صلاة الضحى واختلاف عددها : وليس في هذه الأحاديث حديث يدفع صاحبه ، وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعا جائز أن يكون رآه في حال فعله ذلك ، ورآه غيره في حال أخرى صلى ركعتين ، ورآه آخر في حال أخرى صلاها ثمانيا ، وسمعه آخر يحث على أن يصلي ستا ، وآخر يحث على أن يصلي ركعتين ، وآخر على عشر ، وآخر على ثنتي عشرة ، فأخبر كل واحد منهم عما رأى وسمع .

قال : والدليل على صحة قولنا ، ما روي عن زيد بن أسلم قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر : أوصني يا عم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني ، فقال : ( من صلى الضحى ركعتين ، لم يكتب من الغافلين ، ومن صلى أربعا ، كتب من العابدين ، ومن صلى ستا ، لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ، ومن صلى ثمانيا ، كتب من القانتين ، ومن صلى عشرا بنى الله له بيتا في الجنة )

وقال مجاهد : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الضحى ركعتين ، ثم يوما أربعا ، ثم يوما ستا ، ثم يوما ثمانيا ثم ترك ) فأبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم أن يكون إخباره لما أخبر عنه في صلاة الضحى على قدر ما شاهده وعاينه .

[ ص: 341 ] والصواب : إذا كان الأمر كذلك : أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد . وقد روي هذا عن قوم من السلف : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن إبراهيم ، سأل رجل الأسود ، كم أصلي الضحى؟ قال : كم شئت .

وطائفة ثانية ، ذهبت إلى أحاديث الترك ، ورجحتها من جهة صحة إسنادها ، وعمل الصحابة بموجبها ، فروى البخاري عن ابن عمر ، أنه لم يكن يصليها ، ولا أبو بكر ، ولا عمر . قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : لا إخاله . وقال وكيع : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى إلا يوما واحدا ) .

وقال علي بن المديني : حدثنا معاذ بن معاذ ، حدثنا شعبة ، حدثنا فضيل بن فضالة ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، قال : رأى أبو بكرة ناسا يصلون الضحى ، قال : ( إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه )

وفي "الموطأ" : عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة قالت : ( ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس ، فيفرض عليهم ) .

وقال أبو الحسن علي بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ، ولم يروا صلاة الضحى ، وقال قوم : إنها بدعة ، روى الشعبي ، عن قيس بن عبيد ، قال كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها ، فما رأيته مصليا [ ص: 342 ] الضحى . وروى شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه أن ( عبد الرحمن بن عوف ، كان لا يصلي الضحى ) وعن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة ، وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى ، فسألناه عن صلاتهم ، فقال بدعة ، وقال مرة : ونعمت البدعة .

وقال الشعبي : سمعت ابن عمر يقول : ( ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة من الضحى ، ) وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى ، فقال : الصلوات خمس .

وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غبا ، فتصلى في بعض الأيام دون بعض ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد ، وحكاه الطبري عن جماعة ، قال : واحتجوا بما روى الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : قلت لعائشة : ( أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت : لا إلا أن يجيء من مغيبه ) . ثم ذكر حديث أبي سعيد : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ، حتى نقول : لا يدعها ، ويدعها ، حتى نقول : لا يصليها ) وقد تقدم . ثم قال : كذا ذكر من كان يفعل ذلك من السلف .

وروى شعبة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن عكرمة ، قال : ( كان ابن عباس يصليها يوما ، ويدعها عشرة أيام يعني صلاة الضحى ) وروى شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يصلي الضحى ، فإذا أتى مسجد قباء صلى ، وكان يأتيه كل سبت .

وروى سفيان ، عن منصور ، قال : كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ، ويصلون ويدعون [ ص: 343 ] يعني صلاة الضحى . وعن سعيد بن جبير : ( إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها ، مخافة أن أراها حتما علي )

وقال مسروق : كنا نقرأ في المسجد ، فنبقى بعد قيام ابن مسعود ، ثم نقوم ، فنصلي الضحى ، فبلغ ابن مسعود ذلك فقال : لم تحملون عباد الله ما لم يحملهم الله؟! إن كنتم لا بد فاعلين ، ففي بيوتكم . وكان أبو مجلز يصلي الضحى في منزله .

قال هؤلاء : وهذا أولى ؛ لئلا يتوهم متوهم وجوبها بالمحافظة عليها ، أو كونها سنة راتبة ، ولهذا قالت عائشة : ( لو نشر لي أبواي ما تركتها ) فإنها كانت تصليها في البيت حيث لا يراها الناس .

وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تفعل بسبب من الأسباب ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما فعلها بسبب ، قالوا : وصلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ثمان ركعات ضحى ، إنما كانت من أجل الفتح ، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات ، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح .

وذكر الطبري في "تاريخه" عن الشعبي قال : ( لما فتح خالد بن الوليد الحيرة ، صلى صلاة الفتح ثمان ركعات لم يسلم فيهن ، ثم انصرف ) قالوا : وقول أم هانئ "وذلك ضحى" . تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى ، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة .

قالوا : وأما صلاته في بيت عتبان بن مالك ، فإنما كانت لسبب أيضا ، فإن عتبان قال له : إني أنكرت بصري ، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي ، فوددت أنك جئت ، فصليت في بيتي مكانا أتخذه مسجدا ، فقال : ( أفعل إن شاء الله تعالى ) قال : فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه بعدما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له ، فلم يجلس حتى قال : "أين تحب أن أصلي من بيتك "؟ فأشرت إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه ، فقام وصففنا خلفه ، وصلى ، ثم [ ص: 344 ] سلم ، وسلمنا حين سلم ) متفق عليه .

فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها ، ولفظ البخاري فيها ، فاختصره بعض الرواة عن عتبان ، فقال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتي سبحة الضحى ، فقاموا وراءه فصلوا )

وأما قول عائشة : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه ، فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب ، فإنه صلى الله عليه وسلم ( كان إذا قدم من سفر ، بدأ بالمسجد ، فصلى فيه ركعتين )

فهذا كان هديه ، وعائشة أخبرت بهذا وهذا ، وهي القائلة : ( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى قط )

[ ص: 345 ] فالذي أثبتته فعلها بسبب ، كقدومه من سفر ، وفتحه ، وزيارته لقوم ونحوه ، وكذلك إتيانه مسجد قباء للصلاة فيه ، وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب ، حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا سلمة بن رجاء ، حدثتنا الشعثاء ، قالت : رأيت ابن أبي أوفى صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل . فهذا إن صح فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى ، كشكر الفتح .

والذي نفته ، هو ما كان يفعله الناس ، يصلونها لغير سبب ، وهي لم تقل : إن ذلك مكروه ، ولا مخالف لسنته ، ولكن لم يكن من هديه فعلها لغير سبب .

وقد أوصى بها وندب إليها ، وحض عليها ، وكان يستغني عنها بقيام الليل ، فإن فيه غنية عنها ، وهي كالبدل منه ، قال تعالى : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) [ الفرقان : 62 ] قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : ( عوضا وخلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه ، فمن فاته عمل في أحدهما ، قضاه في الآخر )

قال قتادة ( فأدوا لله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار ، فإنهما مطيتان يقحمان الناس إلى آجالهم ، ويقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة ) .

وقال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : ( أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) .

قالوا : وفعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على هذا ، فإن ابن عباس كان يصليها يوما ، ويدعها عشرة ، وكان ابن عمر لا يصليها ، فإذا أتى مسجد قباء ، صلاها ، وكان يأتيه كل سبت .

وقال سفيان ، عن منصور : كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ، ويصلون ويدعون ، قالوا : ومن هذا الحديث الصحيح عن أنس ، أن رجلا من الأنصار كان ضخما ، فقال [ ص: 346 ] للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لا أستطيع أن أصلي معك ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، ودعاه إلى بيته ، ونضح له طرف حصير بماء ، فصلى عليه ركعتين . قال أنس : ( ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم ) رواه البخاري .

ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة ، وجدها لا تدل إلا على هذا القول ، وأما أحاديث الترغيب فيها ، والوصية بها ، فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدل على أنها سنة راتبة لكل أحد ، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك ، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة ، فأمره بالضحى بدلا من قيام الليل ، ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر ، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة .

وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال ، وبعضها منقطع ، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به ، كحديث يروى عن أنس مرفوعا ( من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلا عن علة ، كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور ) وضعه زكريا بن دويد الكندي ، عن حميد .

وأما حديث يعلى بن أشدق ، عن عبد الله بن جراد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ( من صلى منكم صلاة الضحى ، فليصلها متعبدا ، فإن الرجل ليصليها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها ، فتحن إليه كما تحن الناقة إلى ولدها إذا فقدته ) . فيا عجبا للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله ، فإنه يروي هذا الحديث في كتاب [ ص: 347 ] أفرده للضحى ، وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني نسخة يعلى بن الأشدق .

وقال ابن عدي : روى يعلى بن الأشدق ، عن عمه عبد الله بن جراد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة منكرة ، وهو وعمه غير معروفين ، وبلغني عن أبي مسهر ، قال : قلت ليعلى بن الأشدق : ما سمع عمك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : جامع سفيان ، وموطأ مالك ، وشيئا من الفوائد .

وقال أبو حاتم بن حبان : لقي يعلى عبد الله بن جراد ، فلما كبر ، اجتمع عليه من لا دين له ، فوضعوا له شبها بمائتي حديث ، فجعل يحدث بها وهو لا يدري ، وهو الذي قال له بعض مشايخ أصحابنا : أي شيء سمعته من عبد الله بن جراد؟ فقال : هذه النسخة ، وجامع سفيان - لا تحل الرواية عنه بحال .

وكذلك حديث عمر بن صبح عن مقاتل بن حيان ، حديث عائشة المتقدم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة ) وهو حديث طويل ذكره الحاكم في "صلاة الضحى" وهو حديث موضوع ، المتهم به عمر بن صبح ، قال البخاري : حدثني يحيى ، عن علي بن جرير ، قال : سمعت عمر بن صبح يقول : أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عدي : منكر الحديث .

وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات ، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال الأزدي : كذاب .

وكذلك حديث عبد العزيز بن أبان ، عن الثوري ، عن حجاج بن فرافصة ، عن مكحول ، عن أبي هريرة مرفوعا ( من حافظ على سبحة الضحى ، غفرت ذنوبه ، وإن كانت بعدد الجراد ، وأكثر من زبد البحر ) ذكره الحاكم أيضا . وعبد العزيز هذا ، قال ابن نمير : هو كذاب ، وقال يحيى : ليس بشيء ، كذاب خبيث يضع الحديث ، وقال البخاري ، والنسائي ، والدارقطني : متروك الحديث .

[ ص: 348 ] وكذلك حديث النهاس بن قهم ، عن شداد ، عن أبي هريرة يرفعه ( من حافظ على شفعة الضحى ، غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر ) والنهاس ، قال يحيى : ليس بشيء ضعيف كان يروي عن عطاء ، عن ابن عباس أشياء منكرة ، وقال النسائي : ضعيف ، وقال ابن عدي : لا يساوي شيئا ، وقال ابن حبان : كان يروي المناكير عن المشاهير ، ويخالف الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به ، وقال الدارقطني : مضطرب الحديث ، تركه يحيى القطان .

وأما حديث حميد بن صخر ، عن المقبري ، عن أبي هريرة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا الحديث ، وقد تقدم . فحميد هذا ضعفه النسائي ، ويحيى بن معين ، ووثقه آخرون ، وأنكر عليه بعض حديثه ، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد . والله أعلم .

وأما حديث محمد بن إسحاق ، عن موسى ، عن عبد الله بن المثنى ، عن أنس ، عن عمه ثمامة ، عن أنس يرفعه ( من صلى الضحى ، بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب ) ، فمن الأحاديث الغرائب ، وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وأما حديث نعيم بن همار : ( ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار ، أكفك آخره ) ، وكذلك حديث أبي الدرداء ، وأبي ذر ، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية